د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
يستعمل الناس في محافظة المذنب وربما غيرها الفعل (تنحوى)، والفعل المضارع منه (يَتنَحْوى) والمصدر (النَّحَو) بفتح الحاء، والمعنى الذي فهمته من سياقات استعماله أن (تنحوى) تكلم بفضول الكلام الذي يقوله خالي البال، أو تعمد الغباء في حواره ليثير حفيظة محاوره، ونفى الأستاذ صالح السعيّد وجودها في اللغة(1)، فإن يكن يقصد معاجم اللغة الفصيحة فقوله صحيح. وكذلك لم أجدها في كتاب محمد العبودي (كلمات قضت)(2) ولا في (معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة أو ما فعلته القرون بالعربية في مهدها)(3).
نفي السعيّد علاقة الكلمة بالنحو، قال «في لهجتنا لا علاقة لها بالنحو وقواعده»(4)، وقوله صحيح إن اقتصرنا على تداول الفعل في الوقت الحاضر؛ ولكن اللهجة لها جذور ممتدة عبر الزمن قد تنسى أصول الكلمات فيها؛ لأن الاتكال هو على الاستعمال الوظيفي للكلمة، وهو ما تدل عليه ظاهرًا، ومثال ذلك أن الناس يقولون «هذا ما يواطن شيّ» أي لا يطيق شيئًا، و»ما يواطن جاره» أي لا يطيقه، وأظنهم لا يتنبّهون إلى أن الفعل مأخوذ من الوطن، فالمعنى في الأصل لا يشاركه في وطن واحد: واطنه يواطنه مواطنة، وانتقل الفعل إلى دلالة مجازية؛ ولذلك لست أستبعد علاقة الفعل (يتنحوى) بالنحو، وأن الفعل مأخوذ من النحو الذي يستعمل عندهم بفتح الحاء (النَّحَو)، فليس ببعيد أن من يتعمد أن يغرب في كلامه شبيه بمن يتكلم بلغة فصيحة غريبة عن العامة، وسمعت العامة في مصر يقولون عن المتحدث بالفصيحة «يِتْكَلِّم بالنَّحَوِي».
وأما في التراث فوجدت الفعل (يتنحوى) عند أبي علي الفارسي، قال «مسألة قولهم تَنَحَّى وتَناحى وتَنَحْوَى: (تَنَحّى) الأصَحُّ في هذا المعنى والأخصُّ به ... وقولهم (تنحوى) من (النحو) صحيح في القياس(5)، إلا أن اللفظين الآخرين اللذين هما تَفَعّلَ وتَفاعَلَ أشدّ اختصاصًا بهذا المعنى»(6).
واعتمد الفارسي في تأييد صحة قياس (تنحوى) بعدّ الفعل من الملحق بالرباعي، أي زيد على جذوره الثلاثية (ن/ح/و) حرف رابع ليلتحق بالرباعية الجذور ويعامل معاملتها، ويذكر أنه ألحق بطريقتين بالزيادة التضعيفية، أي تضعيف جذر، وبالطريقة الإقحامية وهي ضم حرف إلى الجذور، قال الفارسي: «وجوازه من وجهين: أحدهما أن تزيد على اللام لامًا مثلَها، كما زيد على جَلْبَبَ وشمْلَلَ وصَعْرَرَ، فكما زيد على كل واحدة من هذه اللامات مثلها، فكذلك يزاد على الواو التي هي لام مثلُها [نحوَوَ]، فإذا زيدت عليها لَزِمَ انقلابُها ياءً لأن الواو إذا وقعت رابعة في هذا النحو أُبدلت منها الياء، يدلُ على ذلك قولهم: أغْزَيتُ وألهَيتُ، وهو من الغَزْو واللَّهْو، فكذلك: تَنَحْوَيْتُ، تُبدل الواو الثانية التي زيدت على اللام ياءً»(7). وإلحاق الفعل بالرباعي هنا بتضعيف لامه.
وقال «والوجه الآخر: ألّا تَجْعَل الياءَ منقلبة من الواو، ولكنْ تَزيد على اللام ياءً، كما زيدت في سَلْقَيْتُ وجَعْبَيْتُ، وهما من سَلَقَ وجَعَبَ، فزيدَ على كل واحد منهما الياء لِيَبْلُغا بَناتِ الأربعة(8)، نحو دَحْرَجَ وسَرْهَفَ(9)، فكذلك هذه الكلمة، كأنه نَحْوَيْتُ، ثم دخلت التاء للمطاوعة، كما دخلت في جَعْبَيْتُه فَتَجَعْبى(10)، وسَلْقَيْتُه فتَسَلْقى»(11).
ولعل المعجميين المعاصرين يضمون هذا الفعل وأمثاله إلى المعجم اللغوي الحديث.
- - - - - - - - - - - - - - - -
(1) صالح بن عبدالله بن عبدالرحمن السعيّد، معجم اللهجة العامية في المذنب وصلتها بالفصحى (ط1، د.ن./ المذنب، 1442ه-2020م) 1: 468.
(2) نشرت دارة الملك عبدالعزيز «كلمات قضت: معجم بألفاظ اختفت من لغتنا الدارجة أو كادت» عام 1423ه.
(3) نشرت هذا المعجم في 13 مجلدًا مكتبة الملك عبدالعزيز العامة في الرياض، عام 1430هـ.
(4) السعيّد، معجم اللهجة العامية في المذنب، 1: 468.
(5) يهتم الفارسي بالقياس اهتمامًا بالغًا من ذلك قول ابن جني الخصائص (1/358- 359) «قال أبو علي وقت القراءة عليه كتاب أبي عثمان: لو شاء شاعر أو ساجع، أو متسع، أن يبني بإلحاق اللام اسمًا، وفعلًا، وصفة لجاز له ولكان ذلك من كلام العرب. وذلك نحو قولك: خرججٌ أكرم من دخللٍ وضرببَ زيد عمرًا ومررت برجل ضرببٍ وكرممٍ ونحو ذلك. قلت له: أفترتجل اللغة ارتجالًا قال: ليس بارتجال لكنه مقيس على كلامهم، فهو إذًا من كلامهم». وانظر: عبدالله بن حمد الخثران، مراحل تطور الدرس النحوي، ص179.
(6) أبو علي الفارسي المسائل الشيرازيات، تحقيق: حسن محمود هنداوي، كنوز إشبيليا، 2: 508.
(7) أبو علي الفارسي، المسائل الشيرازيات، 2: 508.
(8) أي الأفعال التي من أربعة جذور مثل: دحرج.
(9) جاء في تهذيب اللغة: سَرْهَفَ غِذاءَه، وشَرهفَه، إِذا أحسَن غِذاءَه.
(10) جاء في الصحاح: جَعَبْتُهُ، أي صَرَعْتُه مثل جَعَفْتُهُ. ور بما قالوا جعْبَيْتُهُ جِعْباءً فتجعبى.
(11) أبو علي الفارسي، المسائل الشيرازيات، 2: 508-509.