د. خالد عبدالله الخميس
في مقابلة مع أحد مشجعي الملاكم محمد علي كلاي، صرَّح هذا المشجع بعد فوز كلاي في أحد منازلاته: إنني مسرورٌ وسعيدٌ جداً، ليس بتوالي انتصارات كلاي فحسب، وإنما لأني خُلقت في الزمن الذي كان كلاي موجوداً. وكأنه يقول: لو خُلقت في غير زمن كلاي، فإن حياتي بلا شك ستكون تعيسة وبلا معنى، فالحياة تستحق أن تعيشها وتستمتع بها إن كان هنالك موضوع مثير للمتعة، وليس هناك أكثر إثارة من منازلات الملاكم الأسطوري كلاي.
إن رأي هذا المشجع عن كلاي يشبه توجه كثير من ملايين البشر الذين وضعوا في أولى قوائم اهتماماتهم بالحياة هدفًا أو أهدافًا محددة وواضحة، كتشجيع لاعب أو فنان أو مغنٍ أو عالم، أو حتى متابعة خلطة من الأحداث العامة والقضايا السياسية والرياضية والمجتمعية والتي بمجملها برمجت معاني حياتهم على نحو فريد.
في العموم، فإن مصادر متع الحياة عديدة لا يمكن حصرها في كتاب أو كتابين أو مجلد أو مجلدين، وما أردنا التأكيد عليه هنا هو إلقاء الضوء على ضرورة أن يتشبث الفرد بما يجلب له الإمتاع والسرور مهما كان هذا الشيء في نظر البعض تافهاً.
فكل فرد من البشر له فلسفته الخاصة في مواضيع حياتية يختارها بحسب ظروفه وميوله وقناعاته، ولا يمكن لأحد أن يفرض اهتماماته على غيره، كما لا يمكن لغيره أن يفرض اهتماماته عليه، فباعث الاهتمام يتأسس بشكل تلقائي من الذات وليس بشكل إملائي من الآخرين.
وأكثر فترات العمر التي تقل فيه اهتمامات الفرد وتتناقص فيها ما يؤنس الحياة هي فترة الشيخوخة، حيث تضمر في هذه الفترة المواضيع التي تجلب الإمتاع، ومعها تضمر المتعة من الحياة بشكل عام. وفي الغالب، يجد معظم كبار السن وبغض النظر عن دياناتهم، أن اهتماماتهم بالصلوات والعبادات والأعمال الروحية والتأملات الوجدانية تتضاعف في هذه الفترة مما يمنح للحياة معناً نبيلاً، ويبقى آخرون من كبار السن تمتد اهتماماتهم على نحو متعدد أو مختلف. في المقابل، يجد آخرون صعوبة في التفتيش عما يمتعهم. وفي هذا الصدد يُحكى عن موظف تجاوز سنّ التقاعد إلا أنه مستمر في عمله، وعندما قيل له: لماذا، لا تريح نفسك وتتقاعد عن العمل، خصوصاً أن حالتك المادية جيدة، فقال منزعجاً من هذا السؤال: «أقول لك بالحرف الواحد وبكل صراحة؛ لو تقاعدت لمت في الحال». والسبب هنا يعود لقلة اهتماماته وميوله بعد تقاعده، ويرى أنه بتقاعده يخلق لنفسه صراعًا في كيفية مضاء الوقت وملئ الفراغ، فلا شيء يثير اهتمامه ويجلب له متعة الحياة.
ولهذا ينصح القائمون على رعاية الكبار بضرورة رفع وتعزيز اهتمامات المسنين وتشجيعهم لأي مبادرة سلوكية يجد فيها المسن نفسه.
وفي سياق متصل، تذكرت والدي - رحمه الله - فبالإضافة إلى اهتماماته الروحية ووصاله في العبادة وتلذذه بها منذ نشأته وحتى وفاته، فبعدما تقاعد، أنشأ بستاناً صغيراً في محافظة حريملاء (80 كلم عن الرياض)، وكان خلال أيام الأسبوع يتردد عليها قائدًا سيارته بنفسه، وإذا وصل هناك استمتع بتفقد الماء والنخيل والزرع وإطعام المواشي والطيور والقطط، وكان المحيطون به يقترحون عليه بأن يكفونه تلك المهام، لكنه مستمر على برنامجه بكل إمتاع. ومن مواقفه الغريبة الممتعة له شخصاً أنه كان في كل صباح يوصل أطفال الجيران من المقيمين إلى مدارسهم رأفة بهم من خطورة الطريق.
والحاصل، أن ملء الفراغ بأي نوع من الاهتمات لا يشترط فيه أن يكون من النوع الثقيل، فلا تقتصر الاهتمامات على قراءة الكتب وتعلم برامج حاسوبية ومزاولة رياضة جديدة، وإنما تمتد لتشمل متابعة المباريات والفنون والأشعار وتربية الحيوانات وممارسة لعبة البلوت، فكلها اهتمامات تصلح لأن تجعل للحياة معنى.
يعجبني أفراد بلغوا من العمر فوق الثمانين وما زالوا على تواصل مع متابعة الدوري السعودي ويشجعون نادي النصر أو الهلال أو الأهلي أو الاتحاد، ويجيدون تحليل المباريات والحوار في هذه المواضيع مما يمنح نفسياتهم أن الحياة لها أحداث مثيرة للاهتمام.
في المقابل، لا يعجبني سلطة بعض الأبناء وإصرارهم الدؤوب «لتعقيل أبوهم كما يزعمون» على حجب أبيهم من تشجيع نادٍ معين أو لاعب معين أو فنان معين، بحجة الوقار واحترام شيباته. فإن أردت أن تقتل أباك فافرض عليه اهتماماتك وقناعاتك وحاول أن تلزمه بها بالحيلة والقوة، ولتعلم أن الكبير في السنّ قد تجاوز قبول النصائح والتوجيهات، وعليك أن تتماشى مع رغباته دون أن تتولى دور الأستاذية عليه. أذكر رجلاً كبيراً في السن كان يستمتع بموهبة حكاية الطرف وتقليد الأصوات، فحاول أبناؤه ثنيه عن ذلك، لزعمهم أن هذه السلوكيات تحط من وقار الشيخ، وبعد أشهر من كفه عن مزاولة متعته، تدهورت حالة الصحية والنفسية بشكل متسارع حتى انتهي به المطاف لجلطة دماغية توفي على إثرها، ورغم أنه توفي مقهوراً من أبنائه، فأبناؤه يحمدون الله أن توفي على حسن الختام.
وبالجملة، فليس لأحد أن يفرض على الآخرين اهتماماته وقيمه وميوله، ولا تسمح للآخرين أن يفرضوا عليك اهتماماتهم وقيمهم وميولهم. فأنت، هو أنت، وهو، هو هو.