رمضان جريدي العنزي
هي عصاي يا صاحبي أتوكأ عليها، هي عيني وقدمي، سيما وأنا الذي تقوس ظهري، وتعبت ركبتي، ما عدت أرى جيدًا، صار في عيني وهن وغبش، ما عدت أرى الطير في السماء، ولا حتى البعير، صرت وحيدًا إلا من حزني وذكرياتي، والشجرة العتيقة التي أتكئ عليها كل مساء لأحكي لها عن تفاصيل حياتي، أنا الآن أشبه بسحابة قاتمة، تنكمش وتتمدد، لكنها لا تمطر، صرت معنى صغيرًا لا ملامح واضحة لي، ملامحي تحولت إلى ما يشبه العتمة، مشهد حياتي يقوم على خيال الظل، كأن ضبابًا غامضًا يلفحني، ويصيبني بالدوار، أحس بشيء يشبه البخار يخرج من صدري، يزداد حجمة كلما أويت لفراشي، كنت يافعًا ونشيطًا، وكان مظهري حسنًا، وذا هيبة ووقار، وأعامل الناس باحترام تام، وهم يبادلونني الاحترام نفسه، تقدم بي العمر، حتى إنني لم أشعر به، وحتى صرت وحيدًا، أضع أصبعي على شفتي، ويخالجني شعور بعدم الارتياح، أنظر لقسمات وجهي، كأنها تضاريس جافة شاحبة وصعبة، ومع ذلك أحاول أن أبقي وجهي قريبًا من النظارة، لقد وقعت الآن تحت تأثير العمر المتقدم، لم تعد الدهشة عندي هي الدهشة، ولم تعد السحابة هي السحابة، وحتى القصائد التي كنت أحفظها لم تعد تلك هي القصائد، وحتى السهوب الخضر والتلال التي أعشقها لم تعد تبهرني كما كانت، أصبحت كمن يعيش على رمل متحرك، أحتضن الصور العتيقة كحبيبة غائبة، أجيد فعل ذلك وأتقنه، هي سلوتي في خلوتي، أنيسي وونيسي، أيقظ الصور من مخادعها، حتى أبعد نفسي عن اليأس والعدم، وأحيانًا أغني أغاني شعبية، لأخوض معها لعبًا كمن يصنع شايًا في وقت الظهيرة، أفتح شباك نافذتي العتيق لأرى الطيور وهي تحوم حول أعشاشها تتفقد أفراخها ثم تطير، أتذكر سروج الخيل والأهازيج، ووسم الإبل، والعلامات على أصواف الغنم، أتذكر الشتاء العاصف، وكيف كان الثلج يغطي بيوت البادية المتناثرة، حتى يحيلها إلى بياض آخاذ، وكيف كانت رحلات الصيد في الفيافي وفي القفار، صور تتناثر أمامي كما يتناثر الورد على الرمل والصخر، في تجاعيد وجهي صبي ولد في البادية وأفاق، وهاأنذا أدور على حالي، أريد أن أتوقف، لكن الدائرة تتسع، والعمر ينتصر عليَّ، وسقفي بدأ ينهار، ولم يعد من جيلي أحد يواسيني، لقد فقدت بعضًا كثيرًا من ذاكرتي، وفرط لجامها، منظر الغدير والقطاء الذي كنت أهوى، تحول إلى مجرد حكاية، حاولت أن أحصي لك ما بنتيت من أشياء لكنني فشلت، أنا الآن كخيط ضوء رقيق، أصبحت وحيدًا مجردًا إلا من تلك الكايات الجاذبة، وأنا الذي كنت صاحب الهيبة والمقام، أعرف الطير والغزال، وفي حضن السديم أنام، والشاعر والفارس الهمام، أقطع الفيافي وراء القطعان الهاربة بلا كلل، أمشي حافياً، وقدماي تمس الرمل فتهدأ، وأنفاسي تعطر الهواء، رأيت في حياتي كل شيء، بعضه حلو، وبعضه مر علقم، يا الله كم هي الحياة صغيرة وقصيرة ومتبدلة، لم يعد الحليب في ضروع الغنم كما كان حليبًا، صار في علب، ولا رائحة العشب رائحة عابقة، كنت لا أعرف من الفصول سوى الفصول المثمرة، ولا أعرف من النبع إلا ما يروي العطش، ولا من الغزالة إلا صيدها، الآن صرت أحن للشجرة كلما غادرها فصلها، وأراقب النبع كمسافر، ولم أعد قادرًا على صيد الغزالة، قدماي وهنت، وقلبي خرج من دائرة التطلع، وهاأنذا أشم التراب الذي ما زال يحمل فكرة من رائحة الماضي العتيق، أسكنه منذ توكأت على عصاي، قال لي صديقي العجوز حين يتوقف قلبي عن النبض، سأكون خارج الزمان والمكان، أدع لي كثيرًا، فأنا حينها أكون بحاجة لدعاء.