أ.د.محمد بن حسن الزير
كان الإمام فيصل وهو في مصر للمرة الثانية، وهو ذلك الرجل الذي تربى منذ نعومة أظفاره على عقيدة التوحيد، في ظلال دولة إسلامية، في أفياء مجالسها العلمية وقت السلم، وفي ظلال سيوفها المجاهدة وقت الحرب، تعبق أجواؤها بالروح الإسلامية العميقة فكراً وتطبيقاً، كان هناك يعيش مفعم الإيمان بالله، مسكوناً بشعور الثقة المطلقة به، واليقين القوي برحمته ونصره، وأنه قريب من عباده المتقين المحسنين، مجيب لدعائهم؛ ولذلك نجده في منفاه ذلك يسلك مسلك المسلم العابد المناجي لربه، وجعل من مكانه خلوة بربه، يتقرَّب فيها إليه، وكان كما قال ابن بشر (2/84-85): “متوجهاً إلى ربه في مكانه ذلك يحيي غالب الليل بالتهجد والصلاة، وفي نهاره بين صلاة وتلاوة قرآن، وكان المرضى يأتونه ليقرأ عليهم لما يرون في قراءته من أثر الشفاء وشاع ذلك في مصر، وازداد لذلك عندهم تكريماً وتعظيماً. ذُكِرَ لي أنه لما خرج من مصر كانوا يترددون إلى مكانه، يزورونه ويستشفون به، كما هي عادة من لم يُحقق التوحيد؛ وإنما تتبعت ما وقع من هذه الحوادث، وبسطت الكلام فيها؛ ليعلم الواقف على ذلك ما جرى لهذا الإمام، وما جرى عليه من الحروب والوقائع، وما قضاه الله وقدره عليه من الحوادث والفظائع ليعرف بذلك صدقه وشجاعته وبذله وبراعته، وأنه ما أعطى الدنية إلا بعد حروب كثيرة، ووقائع شهيرة، وقتل رجال، ونهب أموال، وكذلك صدق جنده معه، ومحبتهم له، حتى أسلمه القدر وأشخصه إلى مصر، وفي طي ذلك سرّ عظيم، لا يعلمه إلا العليم الحكيم؛ فيجب التسليم لأمر الحق المبين، واصبروا إن الله مع الصابرين {ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} (القصص 5).
وبعد رحيل الإمام فيصل تفرّد خالد بن سعود بالحكم تحت سلطة المحتلين بقيادة خرشيد، وفي سنة 1254هـ، أرسل خرشيد عسكراً إلى الرياض بقيادة رجل كردي يسمى (ملا سليمان) ليحل محل (إسماعيل أغا) الذي صدرت الأوامر برحيله إلى مصر، وفي سنة 1255هـ غزا خرشيد أهل الخرج، وأمر بهدم أسوار بلدانها، ثم رحل إلى الرياض، ثم قصد ثرمداء التي استوطنها وبنى فيها قصراً، وفي سنة 1256هـ ورد الأمر إلى خرشيد بالعودة إلى مصر، وفي جمادى الأولى عام 1257هـ حصلت وقعة بقعاء الشهيرة، وفي هذه السنة هرب (عبد الله بن ثنيان) من الرياض إلى المنتفق، ثم أعطاه خالد بن سعود الأمان، فقدم في آخر رجب؛ ولكنه بدل أن يتجه إلى خالد قصد حائر سبيع، وقاموا معه، وكتب إلى أهل الحريق والحوطة والحلة ذاكراً لهم أنه يريد إخراج عساكر الترك، معتمداً على مشاعر كراهية الترك، وكراهية تابعهم (خالد) فوعدوه النصر، وصمم على الحرب، فما كان من خالد بن سعود إلا أن يقصد الأحساء، وتوجه ابن ثنيان إلى ضرما، وبعد قتال حصل الصلح على أن يرحل عسكر الترك منها إلى ثرمداء، ثم دخل ابن ثنيان الرياض بعدد قتال، وبايعه آل عياف ورؤساء البلد؛ وأما خالد فقد هرب إلى الكويت ثم إلى القصيم ثم إلى مكة. (انظر ابن بشر 2/79-96). واستمر حكم عبد الله بن ثنيان، الموصوف بالشدة مدة عامين إلى أن استعاد الإمام فيصل الحكم منه عام 1259هـ، بعد أن مر على نجد خمس سنوات عجاف شهدت تقلبات وصراعات أهلية.
وحين يسر الله الفعَّال لما يريد الفرج بالخروج من معتقله بتيسير أسبابه، على أيدي أناس من عباده؛ بعضهم من جانب أعدائه؛ لأسباب تتعلق بهم، وبعضهم من جانب أعوانه من مواطنيه المخلصين، عاد فيصل إلى عرينه، ومعه أخوه جلوي، وابن عمه عبد الله بن إبراهيم وابنه عبد الله، وبعد حرب شرسة مع ابن ثنيان، استعاد الرياض أواخر ربيع الآخر عام 1259هـ، لتستأنف الدولة السعودية الثانية انطلاقتها القوية الجديدة الفاصلة في مجرى التاريخ الوطني للمنطقة وأهلها، باستقلالها عن تسلط الغزاة الخارجيين، وقوات الترك الطامعين، وعودة ولايتها لأئمتها الأولين، واستتباب حكم الدولة السعودية، لأهلها الوطنيين، على يد إمامها، ذي العزم المتين، سليل أجداده الغر الميامين، الذي بذل جهده ونفسه حتى تم تأمين الأمن للبلاد والعباد، وخضع الجميع من حضر وباد، ومن قرية وبلاد، لحكم الشرع ونظامه العادل المكين.
وكان الإمام حين قدومه قد كتب إلى “عبد الله بن ثنيان يدعوه إلى المصالحة وحقن الدماء بين المسلمين، وأنه يخرج من الرياض بما عنده من الخيل والركاب والسلاح والأموال والرجال وليس له معارض، وينزل أي بلد شاء في نجد أو غيرها، وله مع ذلك من الخراج كل سنة ما يكفيه، فأبى ذلك، ولم يرض إلا بالحرب.. فوقع الحرب نحو عشرين يوما..” (ابن بشر2/102). وبعدها قبض الإمام فيصل على ابن ثنيان وحبسه، وتمت البيعة للإمام “ وسكنت الفتنة واستقامت الأمور.. وفيها في منتصف جمادى الآخرة يوم الجمعة توفي عبد الله بن ثنيان في الحبس، وجهزه الإمام وصلى عليه المسلمون، وظهر مع جنازته، ودفن في مقبرة الرياض، وكتب الإمام نصيحة لأهل البلدان يحضهم على فعل الطاعات وترك المحرمات، ويأمرهم بالتمسك بالتوحيد” (ابن بشر 2/102-103. وهذه الرسالة الطويلة هي الأولى من عدة رسائل درج الإمام على إرسالها لرعاياه نصحاً وتوجيهاً وتعليماً ودعوة لكل معروف وخير ونهياً عن كل منكر وشر، وختمها بهذا التوجيه:”.. فاقرأوا هذه النصيحة في جميع مساجد البلدان وأعيدوا قراءتها في كل شهرين، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم للخير أجمعين”.
وفي هذه السنة سار الإمام جهة القطيف وأخضع بعض العصاة، وفي 1260هـ والإمام في مسيره هذا قدم عليه فيصل الدويش، وهو في الدمام يسترفده فأعطاه مالاً وكسوة، وفي طريق رجوعه “نزل الأحساء وأقام فيه نحو أربعين يوماً ووفد عليه كثير من رؤساء عمان، ووفد عليه ابن سويط رئيس الظفير بهدايا كثيرة، واستعمل في القطيف أميراً عبد الله بن سعد المداوي، وكان فيه شجاعة وشهامة، واستعمل في الأحساء أحمد بن محمد السديري، وكان له معرفة ورأي وعقل وشجاعة وبراعة وسخاء ولين وسماحة مع الناس، وقوة على الأنجاس. ثم رحل الإمام إلى وطنه، وأذن لغزوانه بالرجوع إلى أوطانهم”(ابن بشر2/110). وللحديث صلة.