د.عبد الرحمن بن سليمان بن محمد الدايل
المتابع للمشهد العربي اليوم يُصاب بكثيرٍ من الإحباط عندما يقف على حجم المأساة، بل المآسي التي يُعاني منها جسدُ هذه الأمة التي أصابها الوهن والضعف حين حلَّ بها التشتت ودبَّت فيها الفُرْقة، ودخل بعض أبنائها في صراعات مع أنفسهم، نعم أقول مع أنفسهم لأنه من المفترض أن تمثِّل أمة العرب، بل وأمة المسلمين كيانًا واحدًا وجسدًا واحدًا كما ورد في الحديث الشريف، فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». ولكن ماذا حدث للعرب؟ وأين هم اليوم مما حلَّ بهم ووقع بينهم؟ ومما يُخطط ويُحاك لهم؟
الأمر لم يعُد يخفى على أحد فقد وقَعتْ كثيرٌ من بلدان العرب في صراعات داخلية لم تجلب معها سوى التخريب والتدمير وتشريد الآمنين منذ أن رفع أبناء تلك البلدان شعارات جوفاء لا تفيد إلا أعداء الوطن ودعاة الغلوِّ والتطرف، ففتحوا الأبواب على مصراعيها أمام التدخل الأجنبي من هنا وهناك، وأصبحت الساحة مفتوحة لإسقاط الدولة المركزية في تلك البلدان وأخذ أعداء الأمة يدسُّون الدسائس ويشدّوُن العزم على تثبيت الوقيعة بين أبناء العرب، وتحقيق مزيد من الدمار والتخريب والتشريد، وأصبح الآمنون المستقرون من مواطني تلك الدول ما بين لاجيء ومشرد، وبعضهم يهيم على وجهه في بلدان العالم، وآخرون يموتون غرقى وهم يحاولون اللجوء إلى ما يحسبونه مستقرًا آمنًا لهم بعد أن رأوا بلدانهم تحتكم إلى المدافع والقنابل والتفجيرات والقتل. وأصبحت تلك الأوطان في معترك كبير، واختلافات لا حدود لها مما جعلها في حاجة إلى زمن أكبر وسنوات أطول لإعادة تأهيل شعوبها - عندما تنفضُّ من غبار أزماتها - حتى تزيل آثار تلك الحالة المُزرِية قبل أن تنتقل لبناء ما تهدَّم وتعمير ما تدمَّر على يد بعض أبنائها ومناصريهم من أعداء الأوطان.
هذا هو الواقع الذي يصيب المتابع بالإحباط يزداد شدَّة حين نرى حاكم الأتراك الحالم بعودة الإمبراطورية العثمانية في صورة جديدة، نراه يسيِّر قواته العسكرية لضرْب الشعب السوري واحتلال جزءٍ من أرضه بدعاوَى باطلة، ونرى الإيرانيين يزداد عبثهم في اليمن الشقيق والعراق وسوريا وليبيا ولبنان وفي غيرها، ويزيدون من فتنتهم واعتداءاتهم وخططهم الخبيثة المملوءة حقدًا وضغينة على استقرارنا وأمننا، وكل هذا وغيره الكثير يتم ولا تزال مشكلة فلسطين لا تجد من العرب حلولاً ناجحة أو كلمة واحدة بعد أن أصبح الاختلاف بين الأسرة الفلسطينية يزيد من حجم معاناة الشعب الواحد بسبب التدخلات الأجنبية، وغيرها من المساعي الحاقدة التي تعمل لصالح أجندات دخيلة تعمل على زيادة مساحة التباين في الآراء والتوجُّهات التي تصل أحيانًا إلى حدِّ القطيعة بين أصحاب القضية الواحدة التي طال انتظارها للحلِّ العادل والدائم الذي ما زلنا نطالب به منذ أمدٍ بعيد.
أين العرب من كل ذلك، وأما آن الأوان لهم أن يفيقوا؟ وماذا ينتظرون اليوم؟ هل لا يزالون يتطلعون إلى حلول تأتي من هنا وهناك؟ هل سيبقَوْن كثيرًا على هذا الحال، وكأنهم أمة متفرقة لا رابط بينهم من عقيدة أو هوية واحدة، أوكأنهم ليس لهم تاريخٌ مشترك أو حتى مصير مشترك واحد؟
إن الأمر جدُّ خطير لا يحتاج إلا إلى موقف واحد يعيد لأبناء العرب قوتهم وكرامتهم، ويجعل بإمكانهم أن يفكروا في مستقبل أفضل يرتفعون فيه فوق هذه الاختلافات والتناقضات، ويصبح بمقدورهم أن يدحروا المؤامرات ويقضوا على الدسائس، ويعيدوا الشاردَ منهم إلى وعيه متى أراد، أو يضربُوا على يديه إذا شذَّ عن الجسد العربي، ووقتها تكون لهم كلمتهم التي تُهاب، وصوتُهم المسموع من مختلف أمم الأرض، ويومَها نرتقي - نحن العرب وبكلمتنا الموحدة - إلى حيث ما يجب أن نكون عليه من قوة ومَنَعة ومقدرة على مواجهة التحديات مهما كانت جسامتها أو ازدادت حدتها.
إن مِثل ذلك الأمل والطموح ليس بعيد المنال، فتاريخ العرب الطويل حافلٌ بالعبر والدروس انه كلمَّا رجعنا إلى تحقيق قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جميعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}، استطعنا أن نحقق ما نظنه مستحيلاً، فبوحدتنا وتماسكنا استطعنا أن نقهر أعداء الأمة في عين جالوت وفي حطين وفي عمُورية، وتمكنَّا من الانتصار في رمضان على القوة التي أكَّدت للعالم أنها قوةٌ لا تُقهر.
وحتى نزرع الأمل ونبعثه في نفوسنا فإنه يجب أن نعطي لأنفسنا ولشباب أمتنا وقتًا للبحث والتفتيش في دروس التاريخ لنتساءل عن موقف واحد من تلك المواقف التي انتصرت فيها أمتنا وأفاقت من غفلتها وهو درس من «فتح عمورية» الذي يعيد للأذهان أنه عند انشغال جيوش المسلمين بمواجهة بعض أعدائهم، قام ملك الروم البيزنطيين، وكانت القسطنطينية (عاصمة تركيا) قام بانتهاز الفرصة وانقض على إحدى مدن العرب وعاث فيها فسادًا فقتَّل الصغار والكبار وذبح الأطفال، وسبى النساء، وأخذ يُغير على المدن الآمنة، ويفعل فيها أفعاله اللا إنسانية حتى ضج المسلمون واستغاثوا، وعندما لطم أحد الروم أسيرة وصاحت: «وامعتصماه». فلمَّا بلغ ذلك المعتصم (وهو الخليفة العباسي) غضب أشدّ الغضبِ، ونادى بالنفير العام، ونهض من ساعته، وكانت واقعة عمورية الشهيرة التي انتصر فيها المسلمون وقاموا بنجدتها وفتحها، وعمورية تلك كانت عندهم أفضل وأمنع وأشرف مِنَ القسطنطينية ذاتها.
إننا إذا كنَّا ندرِّس أبناءنا في مدارسهم هذه الواقعة ونحن لسنا دعاة حرب، فجديرٌ بنا نحن الآباء والأجداد أن نأخذ منها الدروس في الوقت الذي يعيد فيه التاريخ نفسه بأن قوة العرب في وحدتهم، ونحن - ولله الحمد - نمتلك كلَّ مقومات القوة وكلَّ أسباب العزة والكرامة. فهل أن الأوان لتكون للعرب قوتهم ووحدتهم؟ أقول إن مفاتيح الحل في يد العرب، وندعو الله أن يوفق قادتنا دائمًا إلى ما فيه خيرنا وأمننا واستقرارنا.