في الوقت الذي لا يزال المبتعدون عن المشهد التعليمي يرددون فيه السؤال عن المسرح المدرسي، أين هو؟ ومتى سيعود؟ تشهد وزارة التعليم في المملكة العربية السعودية حاليًا حراكًا نوعيّا لم تشهده منذ عهود سابقة في مجال المسرح المدرسي بوصفه أحد أهم وأبرز المشروعات التي تعنى بصناعة شخصية الطالب وإكسابه مهارات الاتصال الإيجابي والثقة في النفس والجرأة المحمودة في مواجهة الجمهور والإلقاء والعمل التعاوني.
لقد شهد عام 1418هـ انطلاقة جديدة للمسرح المدرسي على أيدي المعلمين والمشرفين الوطنيين بعد أن عاش فترة سبات طويلة كانت بمثابة الحد الفاصل بين عهد المسرحيين الوطنيين والمسرحيين من المعلمين العرب المتعاقدين، الذين أسهموا مشكورين في فترات التعليم الأولى في ترسيخ هوية المسرح المدرسي كمنصة تربوية مهمة على خارطة التعليم السعودي، فقد اعتمدت وزارة التعليم في ذلك العام ضمن خطط النشاط الثقافي تنفيذ برنامج تدريبي نوعي في منطقة عسير استمر لمدة ثلاثة أسابيع تلقى فيه المتدربون المفاهيم الأولية التي تؤسس للمسرح المدرسي، بالإضافة إلى تقديم مشروعات تطبيقية للحصول على شهادة الاجتياز، وكنتيجة محفزة لتلك الدورة انطلق مهرجان الفرق المسرحية المدرسية الأول في محافظة الطائف في عام 1419هـ، حيث كان بمثابة الثمرة المسرحية الوطنية الأولى التي غُرست ونَمَت وأثمرت على أيدي معلمين ومشرفين وطنيين، عقب ذلك برزت مجموعة من المبادرات الشخصية لتلقي المزيد من الدورات التدريبية في مهارات الإخراج المسرحي المدرسي واستخدام الدراما كإستراتيجية في التعليم والمسرح التفاعلي والسنوغرافيا وصناعة الدمى وكتابة السيناريو والنصوص المسرحية، حيث بادر مجموعة من المعلمين والمشرفين في عام 1424هـ، بالالتحاق بدورات تدريبية متوالية في الأردن وسوريا ومصر، ساهمت في احتكاكهم بخبرات مسرحية كبيرة عبر معاهد ومراكز متخصصة، الأمر الذي كون قاعدة من المدربين والمخرجين الوطنيين الذين أخذوا على عواتقهم نشر الثقافة المسرحية في إدارات التعليم والمدارس، والارتقاء بالعروض المسرحية المدرسية إلى الأداء الاحترافي الذي يوظف كافة عناصر العرض المسرحي، وقد امتدت خبراتهم إلى المشاركة في البرامج المسرحية في جمعيات الثقافة والفنون.
وها نحن اليوم نلمس آثار تلك المبادرات وتلك الجهود من خلال مؤشرات إيجابية وتنافسية وبأرقام كبيرة تؤكد مدى الرغبة الحقيقية في تطوير هذا المرفق التربوي المفعم بالجمال والقيم الوطنية والأخلاقية، وقد تنوعت تلك المؤشرات ما بين مؤشرات نوعية وأخرى كمية، لتسهم مجتمعةً في تأكيد جودة نواتج ومخرجات برامج ومشروعات وفعاليات خطة وكالة الوزارة للأداء التعليمي بشكل عام والنشاط الطلابي (الثقافي) على وجه الخصوص، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، مشروع المنافسات المسرحية للمرحلتين المتوسطة والثانوية ومهرجان المسرح المدرسي للصغار للمرحلة الابتدائية ومهرجان الفرق المسرحية الذي سيقام في محافظة وادي الدواسر في دورته الثالثة عشرة خلال شهر ديسمبر 2018م كتتويج لكافة الجهود المسرحية على مدار عام كامل وكمرحلة ختامية للمنافسات المسرحية التي تنطلق من المدارس إلى الإدارات التعليمية وتنتهي بالمستوى المركزي في وزارة التعليم، إضافة إلى المشاركات الدولية في العديد من المهرجانات الخليجية والعربية والمنافسة على تحقيق كافة جوائزها.
وتأتي المؤشرات الكمية لتؤكد لنا بلوغ المسرح المدرسي في المملكة العربية السعودية إلى مرحلة الفاعلية والنضج، حيث أشارت آخر إحصائيات الرصد الخاصة بالمسرح المدرسي في الإدارة العامة للنشاط الطلابي (الثقافي) لهذا العام 2018م، عن تنفيذ أكثر من 614 فعالية لمسرح الصغار استفاد منها أكثر من 7000 آلاف طالب، وفِي المرحلة المتوسطة والثانوية نفذت أكثر من 688 فعالية في المسرح المدرسي بمشاركة أكثر من 14000 طالب في المرحلتين، كما أسهمت الوزارة بالشراكة مع هيئة المسرح العربي في تدريب مجموعة من المعلمين والمشرفين ورواد النشاط الذين ساهموا بدورهم في تدريب أكثر من 2600 معلم ورائد نشاط، ومما لا شك فيه أن هذه الأرقام تعد مؤشرًا إيجابيًّا على حضور المسرح المدرسي بشكل تنافسي، وتؤكد الرغبة الحقيقية في تفعيل المسرح المدرسي بشتى أشكاله وأنواعه.
وقد خطت وزارة التعليم خطوات إيجابية في تعزيز الشراكات مع القطاعات ذات العلاقة فقد وجهت الدعوة للكثير من المسرحيين السعوديين والممثلين للمشاركة في تقييم العروض المسرحية والاستفادة من تجاربهم واحتضان المواهب الطلابية.
وفِي تجربة فريدة قامت وزارة التعليم ممثلة في النشاط الطلابي الثقافي ولأول مرة بتنفيذ مشروع مهرجان المسرح المدرسي للصغار في المجمعات التجارية والحدائق العامة والخروج به من أسوار المدرسة، تأكيدًا على أهمية الجمع بين نواتج المدرسة بوصفها نواة التعليم مع قيم الأسرة بوصفها نواة المجتمع، وهي التجربة التي لاقت أصداء واسعة وإشادات كبيرة من أولياء الأمور والمهتمين بالمسرح المدرسي والشأن التربوي.
وعلى الرغم من تعدد التحديات التي تواجه المسرح المدرسي، إلا أن الآمال أكبر والتطلعات أوسع في زيادة مساحات العمل في برامج ومشروعات المسرح المدرسي وتأهيل منشآته وتدريب المعلمين والمعلمات للإفادة منه كإستراتيجية في إدارة الصف، تحقيقا لمبادرات رؤية المملكة العربية السعودية 2030م التي تؤكد على أهمية بناء الشخصية السعودية وتشجيع كل ما يسهم في جودة الحياة.