د. حمزة السالم
مفهوم المدينة الفاضلة، وقصص الفاروق، هو ما تصوره الثقافة الإسلامية لأطفالها عن الخلافة والتاريخ الإسلامي، منذ نعومة أظفار المسلم إلى أن يشيب. فمن رعاية الآباء والأمهات إلى المسجد والمدرسة والجامعة ثم المجتمع والمواعظ، كلها تعيد وتكرر أساطير الخلافة الإسلامية وعصورها بعد أن اختزلوها في الفاروق وعصره، رضي الله عنه وأرضاه. ولم يكتف المسلمون بهذا، بل تشربوا في اللاوعي قدسية السكوت عن فتن المسلمين. وأُشُغلت أذهان المسلمين بنزاعات النصارى وحروبهم وتعظيمها، حتى خلق هذا الخليط، حواجز حجزت فكر المسلم، وصورت له 1400 عام من الأفلاطونيات، التي سحبوا فيها قصص عهد الفاروق، فشملت أربعة عشر قرنًا. فما عاد يتقبل عقل أي خدش في تصوره الحالم عن عصر الخلافة الإسلامية.
فقهاء السلف قد قصروا، كغيرهم من الفقهاء وكالمجتمع كله، فلم يقوموا بدورهم بتصحيح ثقافة المسلمين الحالمة، التي أصبحت حصناً منيعاً خلال أربعة عشر قرناً، فما عاد يقبل الاختراق. لم يتبع الفقهاء عمومًا، في حديثهم للناس باتباع منهج التخلية قبل التحلية. فهم إن حدثوا الناس حدثوهم كالقصاص، فما تصل رسائل العبر ولا تُستفاد الدروس. دروس الفتن التي جرت فيها دماء الصحابة واستبيحت نساء أبنائهم وأعراضهم وأموالهم في ظهرة المدينة، لمجرد أن استهين بفتح باب التفقه على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه وأرضاه.
ومقولة حق، أن فقهاء السلف، كانوا هم أكثر الناس حقًا من انتفع بالدروس المستفادة من فتنة الخلاف على ولي الأمر التي أنهت بأمير المؤمنين عثمان شهيداً مضرجاً بدمه في المحارب، ففُتح مجرى نهر الدم بين المسلمين أربعة عشر قرناً، إلى أن غلبتهم الفرنجة وأجبرتهم على التسالم بينهم. وما أفهم فقهاء السلف هذه الفتنة أكثر من غيرهم الفقهاء، إلا أنهم يفهمون الشرع بفهم الصحابة -رضي الله عنهم - وهو الحق. إلا أنه ما من غصة في حلق فقهاء السلف، وما مُتجرأ يتجرأ عليهم إلا بفتنة عثمان، فيغضون الطرف له. وما تضيع حجتهم إلا بفتنة عثمان. فهذا ما جعل فقهاء السلف أعلم الناس بفتنة عثمان، وجعل رأيهم أصوب رأيًا وأقرب لمراد الشارع، فهم كأنهم يعيشون في ظهرة المدينة يُقتلون وتنتهك أعراضهم.
ولذا ترى علماء السلف، يستشعرون أن ما بدأ بحق اختلاف رأي على أمير المؤمنين، في ركعتي عرفة ومتعة حج، انتهى إلى حروب ودماء أربعة عشر قرنًا، يشيب من يقرأها وترتعد فرائصه إن كان له قلب، فكيف بمن كانوا وقودها وحطامها من المسلمين.
جهل المسلمين بالتاريخ الدموي الذي صاحب الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية، جعلهم لا يدركون معنى الفتنة، ويستخفون بها. فما أدركها والله حقًا إلا فقهاء السلف. فهم وإن كانوا قد تأخروا عن إصلاح خطأ ثقافة تشكلت منذ ألف وأربعمائة سنة، إلا أنهم لم يتأخروا عن بذل جهدهم في دفع الفتنة عن المسلمين، فهم أوعى الناس بالفتنة، وأشجعهم في الحق أشجعهم في مواجهة تهم الناس وافتراءاتهم عليه.
ورغم رأيي في أن الفقهاء بدعة- إلا أني لم يسعني أن أصمت وأنا أرى تضحيتهم في جلدهم وصبرهم على السن الناس وأذاهم، فوالله لهي عندهم كضرب السيوف، فما كان منهم إلا أن دعوا لنا، اللهم اغفر لقومنا فإنهم لا يرون ما نرى. فقهاء السلف رجال قد حملوا هم دماء أهليهم وبلادهم ودماء المسلمين، فهم يتلذذون الأذى تجلدًا تحت ضربات رماح الألسنة، ليدفعوا عن الأمة خطر فتنة قد كسر ظهورهم حمل همها منذ أن حملوا هم رسالة الفقيه.