د. خالد عبدالله الخميس
لماذا نمشي؟
نمشي لكي نخفف من أوزاننا، نمشي كيلا نتعالج من مرض السكري والكلسترول، نمشي كي ننشط وظائف الكلى والكبد والعين، نمشي كي ننشط من عمل القلب، نمشي كي نخفف من صلابة الشرايين، نمشي كي نخفف من أعراض القولون واضطرابات الجهاز الهضمي، نمشي كي ننشط جهازنا المناعي والجنسي، نمشي كيف نخفف من التوتر والضغط النفسي، نمشي كي ننشط عضلاتنا وعظامنا، وتقوى صحتنا.
إنَّ كل سبب سبق ذكره يمثل هدفًا جبارًا من أهداف المشي، وحقيقة لا جدال فيها بأن كل هذه الأمراض دواؤها المشي. ويقول الأطباء: ليس هنالك مرض عضوي أو نفسي إلا وللمشي دور في علاجه. ولو أن دواءً خرج للسوق له فوائد تماثل فوائد المشي لصرفه الأطباء في كل روشتة، ولشراه المرضى بأغلى الأثمان. لكن المفارقة أنه دواء فعّال ومجاني، والمرضى يترددون في تناوله!
كلمة أعجبتني من الدكتور صالح الأنصاري، عميد المشي السعودي واستشاري طب المجتمع، يقول: لو أُنشئ مضمار للمشي حول كل مستشفى، ومشى الناس حوله، لما دخل المستشفى نصف مَن هم فيه الآن، ولخرج من المستشفى كثير من المصابين. ويشدد الدكتور على أن الأسلوب الأمثل لرياضة المشي الصحي هو بالمشي السريع وليس البطيء؛ إذ يقوم الجسم بجهد للجسم من دون إجهاد، ويصاحبه تسارع لدقات القلب والتنفس والتعرق دون أن يصل الحال لحد الإرهاق والتعب الشديد.
إن الدوافع الصحية للمشي جديرة ومعتبرة، لكن هنالك دافع مميز ومختلف، وفي الوقت ذاته أصيل؛ إذ لا ينبثق من المصلحة الطبية أو الجسمانية: إنه المشي لأجل الاستمتاع والرفاهية عن النفس.. المشي المدفوع بدوافع فطرية، المشي غير المتكلف والمتصنع، المشي الذي هو طبع من طبائع الكائنات الحية، مثله في ذلك مثل الأكل والشرب والجنس. حيوانات تمشي سيرًا على الأرض، وحيوانات تمشي طائرة في الجو، وحيوانات تمشي عائمة في البحر.. الكل يمشي، ليس بحثًا عن غذاء، وإنما لأنها مجبولة فطريًّا على المشي.. تجد القرود تقفز من شجرة رغم أن كل شجرة مليئة بالغذاء، والحَمام لا يتوقف عن المشي الطائر رغم امتلاء أعشاشها بالغذاء.. نعم، خُلقت الكائنات لتمشي، وعندما تمشي فإنها لا تستهدف أن تمشي؛ كون المشي جزءًا من تكوينها، وجزءًا من نظام فطرتها.
إنَّ مشي الفطرة (مشي الاستمتاع) له مستويات متفاوتة. أعلى تلك المستويات هو ما اصطُلح عليه في علم النفس بـ»التذويت Internalization»، أي أن يصبح المشي عادة وجزءًا من سلوك الذات. وعندما يقال «تذيت المشي ذواتنا» أي أنه أصبح جزءًا من ذواتنا، وأصبحنا نحن مع المشي ذاتًا واحدة؛ فنمشي المسافات دون أن نستهدف أن نمشيها، ونقطع الأميال دون أن نخطط لها. هذا هو المشي الأصيل الطبيعي الجميل في أعلى دوافعه.. المشي ليس لأجل تحقيق مصلحة صحية أو مصلحة جسمانية، المشي الخالي من التصنع الذي لا يعلق المرء ذهنه بنهاية المسافة، أو بقياس الزمن، أو بمراقبة السرعة.
إن الوصول لمرحلة «تذويت المشي»، واستدخال المشي كقطعة منك، هو وصول لتلاحم بينك وبين فطرتك، وتلاحم بين طبيعة جسمك وما جُبلت عليه؛ فليس هنالك أروع من صديق اسمه المشي، وليس هنالك صاحب قريب ووفيّ وحميم ومسلٍّ ومروّح عن النفس من شيء اسمه المشي.. نعم، لقد خُلقنا مشَّاؤون، لكنهم أقعدونا على الأرائك، فلما اجتاحتنا الأمراض لم يعيدونا للمشي بل حملونا لنرقد على الأسرَّة ننتظر..