د. فوزية البكر
ساهمت الزيارات التاريخية الأخيرة التي قام بها ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان إلى مصر قلب العالم العربي وإلى بريطانيا في إعادة تذكير العالم بالصورة الأصلية التي جاء بها الإسلام للعالم وهي الاعتدال والدعوة للحوار بين الأديان والثقافات ودحر الفكرة التاريخية التي حاول بعض المتطرفين في تاريخنا الإسلامي وفي حاضرنا المتهلهل إضافة إلى بعض المستشرقين الغربيين تثبيتها في أذهاننا وأذهان المؤسسات الأكاديمية والصحفية حول الضرورة التاريخية لصراع الحضارات، وتحديداً بين الإسلام والمسيحية.
اليوم وبجهود متراكمة بدأها الملك عبدالله -رحمه الله- منذ توليه الحكم عام 2005 بإطلاقه حملة واسعة لمكافحة الإرهاب ولاسيما عبر برامج كثيرة كان أهمها برنامج إعادة التأهيل ومكافحة التطرف، وسبقه أنشاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في الرياض عام 2003 ثم مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات في النمسا عام 2012 ثم تلتها الجهود في عهد الملك سلمان بمبادرات تاريخية كثيرة أهمها أنشاء مركز اعتدال في الرياض عام 2017 والذي تؤكد رؤيته على أنه سيكون المرجع الأول عالمياً في مكافحة الفكر المتطرّف وتعزيز ثقافة الاعتدال إلى أنشاء مجمع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود للحديث النبوي الشريف في أكتوبر 2017 في المدينة المنورة.
في خضم ذلك شغلت السعودية بآلاف المبادرات والمؤتمرات التي تؤكد على الهوية الجديدة لدولة سعودية شابة معتدلة تطمح بجموح مفرط إلى تثبيت أقدامها عبر تعديل قوائم اقتصادها وحماية حدودها وتطوير مؤسساتها التعليمية والثقافية والدينية؛ ومن هنا جاءت الزيارة الأخيرة لسمو ولي العهد لتؤكد في شفافيتها العالية ومبادراتها الجسورة إلى إعطاء العالم الرسالة التي يجب أن تعرف من الآن فصاعداً حول المملكة: دولة تبني نفسها بسواعد شبابها وتحاول تلافي أخطاء الماضي بالعمل الجاد لمستقبل أفضل.
فالبعض رأى في الزيارة الأبعاد التاريخية والثقافية والدينية التي حملتها هذه الزيارات المتميزة والتي زار فيها الأمير الشاب كافة الأقطاب الدينية بدء بالأزهر الشريف، حيث أكد تقدير المملكة للدور الذي يقوم به الأزهر في نشر ثقافة الوسطية والتعايش والسلام ومكافحة الفكر المتطرف ثم أعقبها بزيارة الكاتدرائية القبطية في المنصورة، مؤكداً على أنه ومن قلب الكنيسة يقدم رسالته للعالم، وهي أن المملكة العربية السعودية هي دولة المقدسات الإسلامية وهي دولة الرسالة لذا هي تقف مع الأديان الأخرى وتبادل أصحابها حباً بحب، وتمد أيديها لهم بالسلام والمحبة والتآخي دون تعصب أو إقصاء أو كراهية.
لقد أدركنا بعد صراعات مريرة وإخفاقات أن الآمر في النهاية يتمحور حول (صراع الأفكار) الذي أدخلنا والعالم في عالم مخيف من القتل والقتل المضاد ولكي نتمكن من خنق أنفاس التطرف، كما نفعل مع مرض السرطان لابد من أن نقطع الشرايين التي تمده بالطاقة فتمكنه من البقاء وهي مجاميع الأفكار الإرهابية التي تعشعش (بوعي أو من غير وعي) في أذهان الكثيرين ممن يديرون مواقع عديدة في مختلف المؤسسات الحكومية والأهلية خاصة تلك الناشطة بين الفقراء والبسطاء الذين يسهل التغرير بهم.
لا بد لمؤسسات المجتمع أن تفتح عينيها للمشروع التجديدي الذي يتبناه الملك سلمان وولي عهده ورجال حكومته لتخليص الإسلام من دعاوي الإرهاب والتطرف وتحقيق فكرة التجديد للفكر والخطاب الإسلامي العاصر بما يتفق والغايات الأكبر للإسلام وهي أن يبقى صالحاً لكل زمان ومكان. الصورة الضيقة المتطرفة التي يحاول الإرهابيون ومن يرعى فكرهم أن يقدموها للإسلام تهدد بقاء المسلمين أنفسهم وتهدد السلام العالمي وعلينا أن ندفع كشعب بفكرة تجديد الخطاب الإسلامي داخل مؤسساتنا الوطنية وخارج الوطن عبر المؤسسات المذكورة لكن الأهم هو الداخل ثم الداخل ثم الداخل الذي يحتاج إلى نفضة حقيقية من يد سموه الكريم الحاسمة فالعمليات الجراحية مؤلمة وقد يحدث نزيف لكنها تحفظ الحياة في النهاية وهذا ما نحن بصدده اليوم.. مهمة صعبة ومعقدة لكن الأمير الشاب أهل لها.