د. فوزية البكر
كرة الثلج المتدحرجة التي فجرتها أوضاع الطالبات الجامعيات عبر برامج تلفزيونية وهاشتاقات مختلفة وشكاوى الأهل والأزواج أيقظت المجتمع على كم هائل من التفاصيل اليومية التي تمتلئ بها حياة الطالبات الجامعيات في جامعاتنا السعودية. تتفاوت كثافة هذه التفاصيل فتكبر وتتضخم أو تخف حدتها رغم وجودها لدى الكل، لكن يبقى الأمر متوقفاً على عمر الجامعة وتصنيفها الأيديولوجي وقربها أو بعدها عن المناطق الحضرية لكنها كلها تشترك في فلسفة متقاربة تجاه الطالبة: أنها تحتاج للرقابة والمتابعة كي لا تنحرف إذا ما تركت لنفسها الأمارة بالسوء، لذا فعلى الجامعات أن تراقب الطالبة منذ لحظة ترجلها من سيارتها أو من الباص لتتأكد من استلامها سليمة وإعادتها للأهل مختومة بدمغ الجامعة وخلال هذه الفترة من لحظة دخولها المبنى وحتى خروجها تبدأ مراسلات ومحادثات تشغل معظم موظفي الأمن في الجامعات عبر التوكي واكي والتلفونات بين الحراس الذكور الواقفون كالجنود البواسل عند بوابات الخروج وبين الحارسات والمرشدات والمراقبات داخل المباني وكما أورده نموذج ساخر لأحد نشطاء توتير كالآتي:
ألو: حول:
نحيطكم علماً بأن الطالبة عفراء قد دخلت الجامعة الساعة (9.230)
علماً بأن الطالبة عفراء غادرت الجامعة في 11.36.
نحيطكم علماً بأن الطالبة عفراء دخلت الجامعة في الساعة 13.34.
علماً بأن الطالبة غادرت الجامعة 13.50.
مباني الكثير من الجامعات خاصة الناشئة تزخر بالموظفين والموظفات الذين لا شاغل لهم إلا تتبع الطالبات وبناء التوقعات بحسب الموقف والطريقة التي تلبس فيها الطالبة عباءتها وكيف تلفها حول جسدها وبحسب جسارة عيناها في النظر مباشرة لهم. تتعقد المسائل الثقافية ليتداخل الشخصي مع قليل من بهارات المهنة لدى الكثير من هؤلاء الموظفين الذين يأتون في العادة من أوساط اجتماعية بسيطة ولم يكملوا تعليمهم وتبعاً لخبرتهم في المجال ينفذون ما يطلب منهم إما (بحرفية مغرقة) أشارت إليها بعض الطالبات في مقابلتهن التلفزيونية أو بتلبس مسوح الرغبة في النصيحة الأخوية للحفاظ على سمعة الطالبة والجامعة.
هل يعني هذا أن لا وجود لمشكلات قد يفرضها سلوك بعض الطالبات بحيث تحرج المؤسسات الجامعية التي من مهماتها توفير بيئة دراسية مصانة لطالباتها خاصة مع النظرة التشكيكية التي كانت وما زالت قائمة تجاه جنس الأنثى اجتماعياً وتري الجامعات أنها لم تكن مسئولة عنها لكنها مضطرة لوضع الضوابط التي تفترض الشك أولا تبعاً لهذه الرؤية الاجتماعية وحماية للمؤسسة من هجمة اجتماعية تنالها خاصة مع انتشار وسائط التواصل الاجتماعي في كل يد؟ يمكن أن نفترض أنه ومع وجود آلاف من الطالبات فلابد أن بعض المشكلات والتجاوزات قد تحدث فعلاً وتجد المؤسسات الأكاديمية ذاتها في مواجهة قلقة ودقيقة لمعالجة أوضاع صعبة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى حماية للفتاة وحماية لسمعة الجامعة لكن يبقى السؤال: هل يجوز وضع سياسات عامة تطبق على الجميع تفادياً لأخطاء فردية؟
والسؤال الأكثر أهمية هو: كيف بدأت في الأصل طقوس التدقيق والتشكيك تبنى عاماً بعد عام داخل أسوار الجامعات وأمام بواباتها فلا تخرج الطالبة إلا بإذن موقع من ولي أمرها وقد (حاربت) الكثير من القياديات في بعض مراكز الطالبات للسماح لهن بالخروج بعد الحادية عشرة ثم حاربن من أجل خروج الطالبات بعد التاسعة أو العاشرة لكن من يا ترى يفرض كل هذه القوانين التي ربما تكون فعلا مفروضة (بشكل غير مباشر) على الجامعات من خارج المؤسسة؟ هل هي جهات إرشادية أو دينية أو ثقافية خارج الجامعة وتمتد سلطتها للداخل؟ هل هو جهاز الهيئة بالجمسي الشهير والذي كرّس بوجوده الدائم عند بوابات خروج الطالبات طقوسا تم إرغام الجامعات تدريجيا على تبنيها حتى لو لم تتفق مع السياسات الداخلية لبعض الجامعات العريقة؟
على أية حال لنتنفس الصعداء الآن ونتذكر أن عصر التحول المبارك يفرض علينا مراجعة السياسات الداخلية للجامعات تجاه الطالبات ليعاملن كراشدات مسئولات عن أنفسهن ولنجعل الطالبة والمجتمع المحيط بالجامعة يشعر بأنها فعلاً جامعة من خلال أبوابها المفتوحة ومكتبتها العامرة وأنشطتها التي لا تتوقف التي يمكن لكل الناس ارتيادها مع احتفاظ الجامعات بحق اتخاذ الإجراءات الأمنية كافة التي تضمن سلامة روادها كما نرى في الأسواق والمحافل العامة وحينها سنرى أن الطالبات سيبقين لفترة أطول في الجامعة لأنهن لا يشعرن بأنها سجن مؤقت يردن الهرب منه كما نرى الآن.
حان للفتاة السعودية أن تعامل كراشدة وهي بما وصلت إليه اليوم الأكثر تفوقاً ومثابرة من الطالب وهي الأكثر احتمالية لإكمال تعليمها الجامعي، كما أشارت إلى ذلك بعض الدراسات التي بدأت تنادي ليس بالعناية بتعليم الفتيات في منطقة الخليج العربي بل الالتفات إلى الطلاب الذكور الذين كثر تساقطهم من المؤسسات التعليمية سواء في المرحلة الثانوية أو الجامعية وللمزيد حول ذلك انظر:
Natasha Ridge .Education and the Reverse gender divide in the Gulf States.2014. Teachers College, Columbia University. New York and London.