د. محمد بن عبد الله المشوح
ليس بمتسع من يمر أو يعبر أو يقف على سوق الزل القديم «الديرة» في قلب مدينة الرياض وتحديداً شارع الشيخ محمد بن إبراهيم المنتهي بالجامع الكبير «جامع الإمام تركي بن عبدالله».
إلا ويجد لوحة صغيرة مكتوب عليها «السبيعي للصرافة» يجلس في داخل ذلك المحل المتوسط رجل طويل القامة طلق المحيا أنيقاً مهيباً يشاهد المارة ويشاهده الجميع يباشر أعماله بنفسه.
خلو من حالة الكبرياء والخيلاء والحراسة التى يقيمها البعض لأنفسهم.
إنه الشيخ محمد السبيعي الذي بدأ حياته بسيطاً وعاشها عصامياً كذلك
يجسد أجمل ألوان التواضع والبساطة غير المصطنعة أو المتكلفة.
يعيش حياته العادية من غير كلفة بحث عنها آخرون مع أنه أحد أثرياء المملكة ورجال اقتصادها الكبار.
كانت وما زالت سمات الوفاء هي التى تقود الشيخ محمد السبيعي حتى وفاته -رحمه الله- متكئاً على عصاه بيد وأخرى يتكئ فيها على يد أحد أبنائه البررة، يطوف كل مناسبة يدعى إليها من أقاربه وأصدقائه ومحبيه الذين تغشاهم كل السعادة بحضوره وتشريفه.
حدثني ابنه عبدالعزيز أنه عندما انتهى مبنى مقر شركتهم العائلية «ماسك» وحضر والده الشيخ محمد وجد الأبواب الاتوماتيكية المقابلة للمصاعد هى التى تقابل الدالف والداخل لمبنى الشركة حيث لابد من أرقام سرية للدخول.
فتغير وجهه وطلب إزالة جميع الأبواب لتكون مفتوحة أمام الجميع في الوصول إلى المديرين بلا حواجز أو أبواب مغلقة.
كان الشيخ محمد أبرز الرجالات الذين صنعوا عجلة الاقتصاد السعودي ليس بإدارته الاقتصادية المتميزة فحسب بل بنُبله وأخلاقه ومبادئه التى نهل منها الجميع وما يزالون.
أما «الشقيقان» محمد وعبدالله ابنا إبراهيم السبيعي فقد رسما لوحة ليست تجارية اقتصادية ناجحة فحسب
بل هناك لوحة أخرى لا تقل عنها جمالاً ونجاحاً و إبداعاً وهي العلاقة الأخوية الحميمة والشراكة المثالية الطويلة بينهما.
وإذا كان الشيخ محمد السبيعي -رحمه الله- اسما حفر في ذاكرة السعوديين بصفته أحد أكبر وأبرز رجال الأعمال الناجحين طوال قرن من الزمان فإن صنوه وشقيقه عبدالله رافقه كذلك في رحلته العملية والحياتية وظلا معاً يترافقان روحاً وجسداً. العلاقة بين الشقيقين تستحق التوقف والتأمل بكل دقة.
كانت هيبة العصامي الأكبر محمد وجدّيته وصراحته وحزمه مفتاحاً لتلك النجاحات التى لحقت بشقيقه عبدالله الذي سَدّ فراغاً وأحدث تكاملاً فريداً في شخصيته وإندمجا ممثلاً «السبيعي إخوان» ظل محمد السبيعي المتواضع رحمه الله يعدد مآثر شقيقه عبدالله بكل صدق و ود ومحبة ويقول «هو أوسع مني بالاً وأكثر حلماً ولا أنسى تواضعه ودأبه وحفظه للمحبة والجميل وصلة الرحم التى أمر الله بها».
لم تكن العلاقة بين الشقيقين علاقة أخوة فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى محبة صادقة وثقة مطلقة بل إن المرء لايبالغ أنهما يتنفسان برئة واحدة.
ليست نجاحات الشيخ محمد السبيعي وأخيه عبدالله تعزى إلى ذكاء اقتصادي حاد أو دراسات جدوى طويلة أدت إلى هذه المكانة الكبرى التي يتبوأها اليوم، ولكنها تتلخص في مبدأين سار عليها منذ شراكته الأولى مع سليمان بن غنيم التى قادت إلى الشراكة الكبرى مع أخيه وشقيقه عبدالله وهما الصدق والأمانة.
لقد استوقفتني كثيراً كلمة رائعة جميلة رددها الشيخ محمد السبيعي وهي قوله «كانت دعوات الوالدة أن يجمع الله بيننا ويحقق نجاحنا هو أحد أسرار العلاقة الدائمة التى لم تنطفئ بيننا».
لقد رعى الشيخ محمد السبيعي - رحمه الله - شقيقه عبدالله تعليماً وتدريباً ثم شراكة وعلاقة تجارية حتى بلغت الود الأكبر والحب الحقيقي. وصار كل واحد منهما يلهث في رضا الآخر احتراماً وتقديراً ونبلاً ووفاء
وهو أنموذج نادر فذ في ظل النزاعات والخلافات التى صارت تعصف كل يوم بالبيوتات التجارية والعلاقات بين الأخوة والشركاء.
أجل لقد كانت تلك العلاقة والشراكة أكبر من العمل التجاري بكثير وظل الحب والاحترام يطوق كل ذلك في مشهد مهيب لافت كما ظلت العلاقة التي تربط بين الشقيقين والشريكين محل تساؤل دائم لي لأنها بلاشك تعد من أطول الشراكات العائلية وأصدقها وأنقاها وأفضلها تطبيقاً.
كما أنها رغم ما مر بها من عواصف ومنغصات ومكدرات ومشكلات لايخلو منها بيت أو عمل إلا أنها ارتقت فوق ذلك واستحكمت بالمثل العليا التى تربط بينهما.
لأسجل بذلك شهادة بأنها من أسمى وأرقى العلاقات التجارية العائلية الناجحة التى شاهدتها إن لم تكن أنجحها بلا منازع.
ما أرجوه من ذوي الشقيقين أن يتم تناول هذه العلاقة بدراسة أعمق وأشمل والأهم من ذلك أيضاً أن يحافظا على هذا النسيج الفريد والتمازج النادر بين الشقيقين، حيث سطرا حكاية ولوحة من أجمل لوحات الوطن نجاحاً و وداً ووفاءً وصدقاً.
لقد استطاع الشيخ محمد السبيعي -رحمه الله- أن يقدم ليس مدرسة وتجربة ناجحة في الأعمال التجارية فحسب بل امتدت الى مدرسة أخلاقية رائعة طوال سنين عمره المديدة -رحمه الله-.
وكم هي الأجيال اليوم بحاجة ماسة إلى تلقي هذه الدروس الإيجابية لتكمل منظومة أي نجاح ينشد مستلهما تجربة الشيخ محمد السببعي -رحمه الله- وأخيه عبدالله «حفظه الله».
واليوم إذ يرحل الشيخ محمد السبيعي بهذا الإرث العظيم ليس من المال والثراء فحسب بل ما يفوقها من السجايا والأخلاق والمثل.
فإنه يعد أحد أواخر المدرسة العصامية من الرعيل الأول لرجال الأعمال السعوديين، بل أنه يمثل لوحة عنوانها قرن من الزمان عاشها.
إنها لوحة الوطن بكل تفاصيله فقراً وغنى يسراً وعسراً.
إنه حكاية طويلة من كل ما تحتاجه الأجيال اليوم في حياتهم وهمتهم وطموحهم
وإن نسيت فلا أنسى محمد السبيعي الأديب والشاعر المتذوق للشعر المحب لأهله
وهو ما تضمنه الكتاب الوثائقي الذي شرفت دار الثلوثية بنشره، والذي قامت بجمعه وإعداده الابنة البارة له هدى بنت محمد السبيعي.
حيث سطر الكتاب رحلة ماتعة للشيخ بشتى مراحل حياته وتنقلاته ونجاحاته وتجارته، وكان من المهم أن يطلع الجميع على لوحة جميلة من حياة الفقيد -رحمه الله-
لقد كتب البعض سيرتهم ودونوا حياتهم لكن الأديب الشاعر الملهم محمد السبيعي -رحمه الله- سطر حياته المليئة بالنبل والأخلاق والوفاء والسجايا الحميدة وأوجزها بهذه الأبيات التي قالها وكتبها من شعره:
خوف ربي والأمانة يربحني
وبرّك بأهلك والصراحة لك ضماني
وأشكر المعبود فضله ما يضنّي
جلّ جوده ما يضنّ اللي عطاني
ما درست ولا ورثت ولست فني
بل بفضله وامتنانه هو هداني
من لقلبٍ دايم ما يرجهني
اتعبن قلب الخطا بآخر زماني
فكان فصلاً جميلاً رائعاً بعنوان «تاجر وشاعر»... وقد جُمعت قصائده ومقطوعاته الجميلة الرائعة بديوان مطبوع بعنوان «من النوادر.... تاجر وشاعر» ضم كل قصائده.
ولقد طرق في ذلك الديوان الجميل العديد من أبواب الشعر في الموعظة... الوطنية والطرافة والحكمة والحب والغزل.
كما أنه له مساجلات شعرية لطيفة مع الشيخ عثمان الصالح رحمه الله.
وكذلك مع الشاعر والأديب المعروف عبدالرحمن العرفج حفظه الله.
ومن لطائف ما سمعت وقرأت كلمات الشيخ سليمان الراجحي «حفظه الله « حيث أورد شهادة من شخص لا يعرف المجاملة عاصر الكثيرين، اختلط بألوان شتى من الشخصيات، فماذا يقول عن الشيخ محمد السبيعى رحمه الله.
«لقد كان الشيخ محمد السبيعي -ولا يزال - بمنزلة الأخ الأكبر أو الأب بأدبياته وأخلاقه وكرمه، وعلى الرغم من السنوات التي مرت منذ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا، وما اشتملت عليه من الكثير من المواقف والذكريات الجميلة ـ أجدني عاجزا عن التعبير عما يجيش في صدري من شعور وتقدير تجاهه، ولن أجد -مهما حاولت- كلمات تناسب المعنى التي توفيه حقه.
لقد كان يتعامل مع كثير من الإخوان مثل المقيرن والتخيفي ومحمد بن يوسف والقواضي. وغيرهم من الناس، ولم أسمع من أي إنسان ملحوظة على الشيخ السبيعي مطلقاً كبيرة كانت أو صغيرة، في البيع والشراء والتعامل الإنساني والأخلاقي، وأذكر أيضاً أنهم كانوا شركاء مع الغنيم وكان يمثلهم في الرياض صالح وسليمان الغنيم ومع ذلك لم يكن هذا الأمر ليجعل أي تناقض في تعاملاتهم مع عملائهم الآخرين.
حقيقة هذا الحديث جعل الذكريات والأحداث تمر أمام عيني وكأنها حديث الأمس. كانت أياماً جميلة، أعادت إلى ذاكرتي الكثير من المعاني الرائعة.
كما كانت كلمات صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز عن الفقيد رحمه الله حيث تقديمه لكتاب «رحلة الفقر والغنى» الذي شرفت دار الثلوثية بنشره كانت صادقة معبرة بكل دقة عن حياة هذا الرجل العظيم حين قال:
« من يقرأ في سيرة الشيخ محمد بن إبراهيم السبيعي التي خطها قلم ابنته «هدى» في هذا الكتاب.
وترجمتها إلى الانجليزية، لا يجد قصة اعتيادية لرب أسرة وعلاقته بأبنائه وبناته، بل سيرى التاريخ ماثلاً أمامه، متمثلاً بمراحل حياته، وهو الذي أكرمه الله بعمر مديد، عاش خلاله تأسيس المملكة العربية السعودية وذروة التطور الامني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي فيها؛ من الفاقة على اكتشاف البترول، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الجهل إلى العلم والنور، ومن الشتات والتنازع إلى الوحدة والانصهار، إلى أن أصبحت -بفضل الله- مضرب المثل في الاستقرار والرخاء، على الرغم من العواصف التي تمر بالمجتمعات المحيطة من حولها إلى اليوم.
لذلك فسيرة الشيخ محمد السبيعي شاهدة على مسيرة هذا الوطن، زمن مراحل تأسيسه وبدايات بنائه الإداري والاقتصادي في عهد المؤسس وخلفه الملك سعود، ومن ثم الملك فيصل إلى مراحل التطور والازدهار، حيث عايش عن قرب الطفرة الاقتصادية التي شهدتها المملكة في عهد الملك خالد ومن بعده الملك فهد، وما تم في عهديهما من تأسيس بنى تحتية شهدتها المملكة في المجالات كافة، والتي واصل الملك عبدالله من بعدهما التوسع في تشييد هذه البنى، ولا يزال الشيخ محمد السبيعي يشهد ويعايش المزيد من التوسع في المجال الاقتصادي والتجاري في هذا العهد الزاهر بقيادة سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-.
لقد عاصر الشيخ محمد السبيعي -رحمه الله- رحلة الوطن منذ تأسيسه على يد الملك عبدالعزيز وكان خير شاهد على رحلة الوطن من الانطلاقة إلى اليوم.
ولقد تحدث عنه الكثير من الشخصيات الذين اقتربوا منه طيلة حياته وعمره المديد
فأجمعوا على تلك الصفات النبيلة وأطبقوا على تلك السجايا الحميدة فهنيئاً للشيخ محمد السبيعي هذا القبول وتلكم المحبة التي قل أن تجتمع لأحد.
لقد تتبعت سيرة الشيخ محمد السبيعي -رحمه الله- فوجدت أن الله عز وجل أكرمه بالعديد من العطايا والمنح والسجايا والمكارم والخصال والتي تتلخص في الآتي :
1- أنه بدأ بالصرافة وانتهت تجارته فيها فأمد الله في عمره حتى أصبحت بداياته الأولى تشكل اليوم أحد أكبر الكيانات الاقتصادية في المملكة والمتمثلة في بنك البلاد حيث يعتبر أحد مؤسسيه وأكبر ملاّكه.
2- علاقته مع أخيه عبدالله والتي أشرت إلى أطراف منها.
وقدمت الأستاذة هدى في كتابها عن والدها أسرارا وخفايا ولطائف تلك العلاقة.
3- أنجاله وأبناؤه وبناته البررة الذين ساروا على خطاه وتمثلوا صفاته النبيلة ليقودوا من بعده تلك القافلة المباركة التي أرسى قواعدها والدهم -رحمه الله-.
رحم الله الشيخ محمد السبيعي وأسكنه فسيح جناته وبارك في عقبه وجزاه خيرا على اعماله الخيرية ومبادراته الخالدة وخدماته الجليلة لأمته ووطنه ومجتمعه.