زكية إبراهيم الحجي
عُرِفت حضارتنا العربية ومنذ الأزل بأنها حضارة ذات نسق ثقافي مفتوح وقدرة واضحة على الانفتاح وتجاوز الذات فتفاعلت مع العديد من ثقافات الأمم السابقة مع الحفاظ على هويتها رغم سمة الاختلاف والتباين التي تميزها عن ثقافة أي أمة من الأمم.. فهل سيشكل التاريخ تهديداً لهويتنا الثقافية في ظل استعمار العولمة؟.. وهل تذوب وتضمحل ثقافاتنا الوطنية في عولمة ثقافية هدفها نشر ثقافة كونية واحدة تهيمن عليها المالكة الوحيدة لوسائل العولمة؟.
قبل الإجابة على هذه الأسئلة يجدر بنا أن نشير إشارة بسيطة إلى أن مفهوم الهوية الثقافية ما هو إلا تلك المبادئ السامية والذاتية والنابعة من جميع أفراد أي مجتمع من المجتمعات تجاه أوطانهم وتاريخهم وتراثهم الذي يربطهم بماضي حضارتهم.. وبناء على ذلك فإن الهوية الثقافية تتمثل في الدين واللغة والعقد الاجتماعي والتاريخي لأي مجتمع أو شعب أو أمة تعيش على هذا الكوكب.
ولأن الوجود التاريخي والجغرافي للبشرية مقترن بالوجود الثقافي لذا فإن هذا الاقتران هو ما يحدد خصوصية المجتمعات الثقافية ويشكل انتماءاتها وهويتها أمام الآخرين.. إلا أنه وللأسف الشديد أصبحنا اليوم مهددين في هويتنا الثقافية في ظل عولمة استعمرت مختلف جوانب الحياة من ثقافية واجتماعية واقتصادية.. وأصبحت العولمة الثقافية بمبادئها ومعاييرها الغربية وكأنها نموذج كوني وما علينا إلا أن نعترف به ونقبله.
لن نخدع أنفسنا.. فنحن في حقيقة الأمر بدأنا نتلمس الخطر المحدق بهويتنا الثقافية والتاريخية والتراثية من خلال متغيرات كثيرة طرأت على العالم وأولها الترويج للثقافة الغربية عبر كل المنافذ.. وبدأنا نستشعر حجم التحديات التي تواجه هويتنا الثقافية وأصبح حالنا تنطبق عليه قاعدة «لا مشاحة في القول» فلغتنا العربية لغة القرآن والتي تمثل أصل هويتنا وتواصلنا مع بعضنا البعض لُقِحت بمفردات وعبارات غربية.. يلتقي أحدهم بآخر فبدل أن يحييه بتحية الإسلام السلام عليكم نجده يقول «هاي» والقائمة طويلة وتشمل الثقافة التي طغت على أذواق الناس كالملبس واستهلاك السلع الأجنبية بدعوى تفوق الصناعة والإنتاج.. والأخطر هو الترويج لقيم وسلوكيات أذابت خصوصياتنا.. هذا على المستوى الاجتماعي.. أما على المستوى الإعلامي فقد سيطرت العولمة الإعلامية على وسائل الإعلام المحركة لثقافتنا سعياً لقلع جذورها بالتضليل وخطط ممنهجة قد تصل إلى قلب الحقائق وتداول بعض المصطلحات المصطنعة بحجة قبول الآخر وبدعوى الانفتاح كل ذلك يحدث من خلال التستر وراء مبررات واهية.. آثار كثيرة أفرزتها العولمة الثقافية واخترقت بها ثقافتنا وخصوصياتنا وأثرت على أبنائنا وبناتنا وفرضت عليهم تبعية الثقافات الأخرى في إطار المكون الثقافي المعولم والمتمثل في الثقافة الغربية.. إذن علينا أن ندرك أن مواجهة العولمة الثقافية تقضي التعامل معها وليس الذوبان فيها.. وعلينا أن ندرك أن وجودنا الثقافي في المعترك الحياتي هو بمثابة حصن لنا يحفظ خصوصيتنا وهويتنا.. ومن خلال التفاعل الحضاري العالمي نثبت تمسكنا بهويتنا الثقافية التي تعبر عن عمق تاريخي متراكم في الوجدان ولا يمكن الانفصام عنه.