د. محمد بن عبد الله المشوح
أشدها وأوجعها وآلمها فقد الأحبة ممن لهم في القلب منزلة والروح مكان.
لقد عاشت بلادنا فترات صعبة سابقة من الفاقة والجوع والحاجة التي لم تكن سبباً في التنازل عن القيم والمبادئ الجميلة الراقية.
فعاش أباؤنا حياة صبر وكفاح
يلتحفون بالإيمان واليقين بوعد الله.
ثم بطلب الرزق والعيش أخذاً بالأسباب
كانت تلك الحياة تحمل معها مصاعب ومشاق لفت بقصص رائعة من العصامية.
وكانت حياتهم مليئة بالكثير من الدروس التي نحتاجها اليوم وتحتاجها أجيالنا.
وكان رحيل الشيخ عبد الرحمن بن محمد الراشد الحميد رحيلاً لواحد من أولئك الجيل الرائد الذين لم تكن حياتهم مفروشة بالورود والذهب
كان أول لقائي ومعرفتي بالشيخ عبد الرحمن بن محمد الراشد الحميد متأخر نسبياً حيث كان في عام 1430هـ أثناء مشاركة دار الثلوثية في معرض الكتاب الدولي بالرياض.
كنت جالساً في جناح الدار وإذا برجل يقلب الكتب وقد بدت عليه ملامح التقدم بالعمر لكن ملامح الوقار كانت واضحة بادية عليه.
بادرت بالسلام عليه وعرفته بنفسي ثم سألني مباشرة عن العم سليمان بن عبد الله المشوح نزيل مكة وهو من أوائل أهالي بريدة الذين استقروا في مكة فور دخول الملك عبد العزيز إليها فأخبرته بأنه بمقام العم وأنه أحد كبار أسرتنا رحمه الله.
فأثنى عليه وعلى كرمه وتعامله.
ثم عرفني بنفسه وقال أنا عبد الرحمن بن محمد الراشد الحميد فتلقيت تعريفه بالترحيب الحار والكبير لما لأسرته وأعمامه الكرام الوجهاء إبراهيم وعبد الله وعبد العزيز من مكانة لدى الجميع وخصوصاً في بريدة.
ومن الذي لا يعرف هذا الاسم الكبير «الراشد الحميد»
فكان اسم أسرتهم يتردد على ألسنة والدي وأعمامي مذ كنت صغيراً.
وأدركت في سنين الطفولة «الكشتة» في «الدغمانيات» أحد كبرى وأوائل المزارع في المملكة العربية السعودية وأجملها وأتقنها.
ثم تبادلنا الحديث وأبدى فرحه بوجود كتب معالي الشيخ محمد العبودي، وقال إنه يتابعها جميعاً إلا أنه بحث عن الجديد ولديه بعض النواقص.
وكان سؤاله سؤال العارف القارئ المتابع فأخبرته بأننا في الدار نُعنى بكتب شيخنا محمد العبودي وأننا حرصنا على توفرها وتواجدها للقراء والباحثين فطلب فوراً تجهيز جميع كتب الرحلات والمعاجم، وقال لا أستحضر المتوفر عندي لكن حتى لو تكررت لا مانع فهو كتاب ووجوده خير وبركة خصوصاً كتب الشيخ محمد العبودي.
ثم صارت العلاقة والصداقة فكان لا يترك معرضاً للكتاب في الرياض إلا ويحضر وأطلب منه التفضل بالجلوس فأسعد بزيارته وأستمتع بحديثه الذي لا يمل.
بل أصبح يتردد على دار الثلوثية في موقعها بين وقت وآخر ويطلب الجديد.
تحدثت معه عن أسرته الكريمة ووالده وأعمامه وأن لهم تاريخاً وطنياً واجتماعياً واقتصادياً هاماً لم يكتب ولم يدون.
ورجوت منه أن يسعى لكتابه مفصلة عن تاريخ الأسرة فأحاطني علماً أنه كتب مذكرة عائلية خاصة عن جده تناول فيها تاريخ الأسرة خصوصاً والده وأعمامه ووعدني أن يأتي لي بنسخة منها مع كونها لم تدون لتصبح كتاباً وإنما سعى لتكون إضاءات للأسرة فقط وهي حديث عفوي كما يقول.
وبالفعل وفَّى - رحمه الله - فأحضر لي نسخة صغيره مكونة من «46» صفحة كتب عليها «لمحة تاريخية خاصة» لكنها مليئة بالفوائد المتنوعة عنه وعن أسرته ففرحت بها كثيراً.
حيث تناول فيها قصة جده بأسلوب جميل سلس يعبر عن ذائقة ثقافية وحس مميز للعرض والسرد.
ثم سبَّب الكتابة بأنها بطلب وإيعاز من أخيه صالح وأورد تاريخ ولادة والده محمد سنة 1305هـ حيث عمل في النخيل والزراعة وأورد العديد من القصص والطرائف الجميلة عنه.
ثم أورد: توقَّف جده عن العمل مبكراً وخصوصاً بعد أن كبر أبناؤه من طرفة الصالح المديفر وهم إبراهيم وعبد الله وعبد العزيز وسليمان وتفرغ للأذان في مسجد ابن فدا إلى أن كبر وصار لا يستطيع الأذان وقد توفي سنة 1362هـ.
ودفن في قبر أعده لنفسه بمقبرة «الصقعاء» ببريدة. مع أن المسجد قد بناه الجد «راشد» إلا أنه عرف باسم إمامه الشيخ عبد الله بن فدا وهو كذلك أي الشيخ ابن فدا جد والد الفقيد عبد الرحمن لأمه حيث والدته هي حصة العبد الله الفدا.
واهتمام الفقيد الشيخ عبد الرحمن بالكتب كان ليس جديداً بل كان مبكرا حيث يورد - رحمه الله - هذه القصة ويقول: «كان والدي محمد - رحمه الله - يحتفظ ببعض الكتب التي رأيتها عنده عندما بدأت «أفك الخط» وعلق بذهني ذاك الكتاب دون أن أحفظ اسمه وعلق بذهني بسبب صورة المؤلف بالصفحات الأولى.. رجل بلباس غريب على «لباس غربي» وصورة لشخص بدوي كتب تحتها الإمام عبد الله بن سعود في طريقه إلى الأستانة وصورة كتب تحتها مسجد بالعارض وبقي في ذهني ذلك الكتاب حتى وجدته بعد أن تخرجت من الجامعة وهو كتاب تاريخ نجد لأمين الريحاني وقد عرفته من الصورة التي علقت بذهني.
لقد تحدث عن والده الذي هو واحد من أبرز رجال العقيلات حيث جاب الجزيرة العربية من بيشه في الجنوب إلى العراق وبلاد الشام وفلسطين والأردن ولبنان وسيناء ومصر والصعيد كله وغيرها.
كما أورد قصة انتقال والده من بريدة إلى حائل بعيد دخوله تحت حكم الملك عبد العزيز حيث كان استقرار والده سنة 1346هـ.
وسرد سرداً جميلاً رائعاً قصص زواج والده وانتقاله ثم صداقته مع سليمان الحمد الطعيمي حيث كانت أسفارهم سوياً.
أما صداقة والده الكبرى فكانت مع الشيخ عبد الله بن سليمان بن بليهد قاضي حائل الذي حذره من التوسع المالي وأن يصيبه «كسرة» كما تُسمى وبالفعل وقع ما حذره منه الشيخ ابن بليهد فانكسر مالياً والده ثم ارتحل إلى بريدة في قصة مدهشة مؤثرة وأورد العديد من المواقف للجد «راشد» ولوالده الذي بقي ليس بيده شيء في بريدة حيث يقول: «أثناء إقامة الوالد في بريدة لم يكن بها إلا الجد راشد وهو متوقف عن العمل والعم صالح في دكان على قدر الكفاف أما الأعمام إبراهيم وعبد الله وعبد العزيز وسليمان فكانوا بالغربية (بلاد الشام) وفي نهاية إقامة الوالد في بريدة وصل العم إبراهيم ولا شك أنه ليس في مقدوره أن يعمل للوالد شيئاً يُذكر إلا أنه وعندما قرر الوالد السفر إلى الرياض اقترض من صديقيه سليمان الوشمي وصالح العمري وكانا شريكين في دكان واحد اقترض جنيهين ذهبيين وأعطاهما الوالد وهما كل ما يملك عند وصوله للرياض، وصلنا الرياض بسيارة شحن وفي مساء اليوم الثالث من سيرنا من بريدة وصلنا بعد منتصف الليل في ليلة من أوائل ليالي شهر رمضان عام 1360هـ وعندما تجاوزنا الجبيلة مقبلين على الرياض وعلى بعد حوالي 50كم ولصفاء الجو والظلام الدامس ظهرت لمبة واحدة على قصر الملك عبد العزيز بالصفاة وحوالي ثلاث أو أربع لمبات على قصر الأمير محمد بن عبد الرحمن في عتيقة، وحيث إن الوالد سبق أن زار الرياض في أوائل استقرار الملك عبد العزيز بها رأى أن في هذه اللمبات طفرة بالنسبة للرياض.
ثم توقفت السيارة بنا بالمقيبرة قرب بيت أخو صاحب السيارة محمد الجار الله وكانت المقيبرة هي المركز التجاري ففيها مبيعة الحطب والأعلاف ودكاكين ومخبزان أو ثلاثة ومركز شرطة وسوق اللحم، تفرق الركاب الذين لهم بيوت بالرياض أما الباقي فقد دعاهم صاحب السيارة على طعام السحور فقدموه حاراً وهو عبارة عن أرز ومطبوخ على عجل بالماء والملح وفترة بقائنا على ظهر السيارة لا أزال أسمع نباح الكلاب وتعاركها على الطاولات التي يباع عليها اللحم بل والتبول عليها وفي الصباح يعرض عليها اللحم دون أي تنظيف ولا المسح بالخرق وعندما شرقت الشمس ذهبنا إلى بيت أحمد الغصن لضيافته وكان بيته مضافة لأنه ميسور الحال فهو من موظفي الخاصة الملكية ولا عنده عائلة ولا يخلو بيته من الضيوف إلى أن جلب عائلته من بريدة.
فتح الوالد دكان عبد الله المرشد وأستأجر بيتاً قبل نهاية شهر رمضان وكنت أنا الطباخ والقهوجي وصبي الدكان.
ثم أخذ الشيخ عبد الرحمن يردد بعض المواقف له ولوالده أثناء إقامتهم هناك..
أما القصة الأعجب فهي مع قصة والده مع صديقه محمد العلي الصانع حيث يورد الشيخ عبد الرحمن القصة الرائعة التالية: «محمد العلي الصانع المذكور كان قد أقام في حائل لفترة من الزمن في أول شبابه عند قريب له اسمه عبد الرحمن الجار الله وعمل سمساراً بالسوق ينادي على أي شيء يُباع ويُشترى وذات مرة كان ينادي على جنيه ذهبي واحد فقط جنيه ذهبي واحد ينادي عليه بالمزاد بسوق المدينة من أوله لآخره يزيد هذا ربع قرش ويزيد الآخر مثل ذلك حتى يستقر المزاد على أحدهم فتتم الصفقة وكانت قيمة الجنيه الذهبي آنذاك في حدود اثني عشر ريالاً فرنسياً وأثناء المزاد وقف محمد الصانع مع شخص اسمه رشيد الخرمة أذكره شخصياً وقف يتحدث معه ويساوم على الجنيه.
كان هناك طريقة بسيطة لفحص الجنيه ونقاوته وهي أن يضع الجنيه على طرف الإصبع السبابة من الجنب ويوضع إصبع الإبهام تحتها ويعمل منه مطرقة زنبركية تقذف الجنيه بالهواء محدثاً رنيناً خاصاً تعرف منه نقاوة الذهب، قام محمد بهذه العملية أمام رشيد ولكن الجنيه لم يسقط في يد محمد فانحنى محمد ليلتقطه من الأرض فلم يجده وأخذ محمد ورشيد وبعض المارة في البحث عن الجنيه فلم يجدوه ولو أنهم ربما نخلوا التراب وهنا ثارت ثائرة صاحب الجنيه واتهم محمد بإخفائه وصارت مشادة كلامية وهدد صاحب الجنيه بالشكوى على أمير حائل آنذاك عبد العزيز بن مساعد بن جلوي بن تركي آل سعود وهو حاكم حاد وسريع الحكم والتنفيذ فما كان من الوالد حين بلغه الأمر إلا أن خاف على محمد الصانع فزكّاه من تهمة إخفائه للجنيه ودفع جنيهاً من جيبه لصاحبه وبعد فترة من الزمن قد تصل للسنة قام رشيد المذكور بارتداء معطف شتوي كان يلبسه وأدخل يده في جيوب المعطف فإذا به يجد الجنيه بداخله أي أن الجنيه لم يسقط بيد محمد ولا الأرض بل سقط في جيب معطف رشيد الخرمة، ودارت الأيام حتى استقر محمد الصانع وتوفي بعد أن تجاوز الثمانين من العمر وبعد أن أصبح من أصحاب المليارات.
لم ينس محمد الصانع موقف الوالد من تلك الحادثة فأكرم الوالد غاية الإكرام وساعده كما ذكرت، ويشاء الله أن يتولى محمد الصانع العناية بجنازة الوالد حينما توفي ونحن في بريدة وليس عنده إلا الأخ صالح والأخ عبد الله فقد اتصل صالح الحوشان على الأخ صالح يسأله عن الوالد في الدقائق التي توفي فيها وكان صالح الحوشان بالسوق التجاري فبلغ محمد العلي الصانع الذي قام بإبلاغ الجماعة ودعوتهم للصلاة عليه في الجامع الكبير بالرياض ودفن في مقبرة العود تاريخ 8/7/1394هـ الموافق 8/8/1974م.
لقد سعى الشيخ عبد الرحمن - رحمه الله - إلى أن يدوّن طرفاً من أحداث قصة أسرة الراشد الحميد الكبرى.
والتي كان لها إسهامها الوطني الكبير حيث كان أعمام الفقيد إبراهيم وعبد الله وعبد العزيز وسليمان كونوا أكبر مصرف بالمملكة بعد أن بدأ الصرافة في بغداد في أوائل الستينيات الهجرية.
وبلغت فروعهم آنذاك أربعة عشر فرعاً ولهم فروع في بيروت والكويت والبحرين وأسسوا شركة كهرباء بريدة وشركة كهرباء عرعر وساهموا مساهمة أساسية في شركة كهرباء الرياض واهتموا بأعمال الزراعة الحديثة في بريدة،
واستوردوا المعدات الزراعية والحفارات وأجهزة الري والحصادات.
وهم أي الراشد الحميد أول من جلب سيارة قلاب بالقصيم وأول من ملك سيارة خاصة صغيرة في نجد كانت من نوع شفروليه موديل 50 وكان ثمنها آنذاك كما يقول الشيخ عبد الرحمن - رحمه الله - اثني عشر ألف ريال.
وبوفاة الشيخ عبد الرحمن الراشد الحميد تفقد الأسرة أحد أبرز رجالها العصاميين الذين ذاقوا مرارة العيش وكافحوا من أجلها.
احتفظ - رحمه الله - بسجل كبير من الذكريات تمنيت أن يستمر في سردها للأجيال لتكتب صفحة مهمة من تاريخ الوطن لا تنسى.
رحم لله أبا صلاح، وأسكنه فسيح جناته، وبارك في ذريته وعقبه.