د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ومما ينبغي أن يتصف به الباحث: الموضوعية التي تؤدي به إلى العدل والإنصاف في الأحكام التي يصل إليها، فالباحث الجاد ينبغي عليه أن يبحث عن الحقِّ المؤيد بالدليل، وأن يسعى إلى إثباته وتقريره حتى وإن خالف هواه، وأن يبتعد عن المبالغة والهوى والتحيُّز، وأظنها صفات نادرة في هذا الوقت الذي تحكمه (الإيديولوجيات) والأهواء والميول وتحقيق المصالح الشخصية.
ولأنَّ طبيعة البحث العلمي الجاد قائمٌ على عرض الآراء ومناقشتها بمنهجيةٍ سليمةٍ وعلميةٍ دقيقةٍ فإنَّ الباحث المتميز يدرك أهمية احترام الآخر وتقدير آرائه مهما بلغ الاختلاف معه، وهذا يستلزم أن يكون متواضعاً ملتزماً بآداب البحث، وكم هو مؤسفٌ أن نرى بعض الباحثين الآن يتفننون في الحطِّ من آراء الآخرين، ويستعرضون في النيل من شخصياتهم، ويفتخرون بسخريتهم والانتقاص منهم، معتقدين أنَّ ذلك مما يقوي موقفهم، ويؤيد آراءهم، ضاربين بأبسط أخلاقيات البحث العلمي عرض الحائط.
ثم إنَّ الباحث الجادَّ لا بد له من الحرص على ظهور شخصيته في دراسته، وذلك من خلال مناقشة الأدلة مناقشةً علميةً هادئة، والقدرة على وضع رأيه في المكان المناسب، وألا يسلِّم بكلِّ معلومةٍ تمرُّ عليه دون أن يتأكد منها ويقتنع بها، أما الصفة الأخرى فهي الأصالة العلمية، التي يمكن تحقيقها من خلال عرض الأفكار والمعلومات بطريقةٍ صحيحةٍ وتنسيقٍ جيد، والقدرة على إصدار الأحكام ببصيرةٍ نافذة، والحرص على الإضافة والإبداع وتقديم الجديد.
ولعلَّ من أسوأ الأمور التي يلاحظها المتأمل في بحوث الجيل الجديد: التكرار الممل للأفكار، فتجد الباحث يكرر ويعيد ويزيد في فكرةٍ واحدة حتى تستولي على البحث كله، غير مدركٍ أنَّ المقصود من البحث تحقيق دراسةٍ واعيةٍ ونتائج صحيحةٍ مبنيةٍ على قواعد راسخة، ولعلَّ مردَّ هذا التكرار عند بعضهم راجعٌ إلى الفقر العلمي والخواء الثقافي الذي يعاني منه الباحث، فلا يجد ما يحشو به رسالته غير هذا التكرار السخيف، ثم إنه مظهرٌ من مظاهر الفوضى الفكرية، وعدم الالتزام بالمنهج العلمي السليم، وعلامةٌ من علامات حبِّ خروج البحث بحجم أكبر مما يقتضيه مضمونه.
أما العناية بالأسلوب فهو الإشكالية الكبرى التي يعاني منها كثيرٌ من الباحثين، إذ ينبغي على الباحث الاهتمام بالأسلوب العلمي المبني على اللفظ الواضح الفصيح، والعبارة المشرقة الجميلة، والسبك الحسن المتين، أما أصحابنا اليوم فتحمد الله إذا لم تمتلئ صفحات بحثه بأخطاءٍ إملائيةٍ ونحويةٍ ولغويةٍ لا يقع فيها طالب الابتدائية.
ومما يُنتظر من الباحث الجاد الحرصُ على خدمة نصوص بحثه من كلِّ وجه، فيشرح ويخرِّج ويعرِّف ما يحتاج إلى ذلك، والعناية بالإحالة إلى المصادر، والاهتمام بعلامات الترقيم التي تجاهلها كثيرٌ من الباحثين اليوم، ومثل هذه الأمور تحتاج وعياً وإدراكاً من الباحث قبل أن يشرع في كتابة بحثه، حتى يمكن له أن ينتج لنا دراساتٍ جيدةً تفخر بصاحبها، وتستحقُّ الدرجة العلمية التي ينالها بسببها.
ولأنَّ من طبيعة البشر السهو والخطأ، فإنَّ الباحث الجاد يدرك مدى أهمية القراءة الواعية لكلِّ جزءٍ من أجزاء دراسته بعد الانتهاء منه، حتى يمكنه تصحيح الأخطاء، وتلافي ما يقع فيه من نقص، وإعادة ترتيب ما ندَّ الذهن عن ترتيبه بصورة أكثر دقة، وتصحيح صياغة عبارة قد توقع في لبس، والتأكد من صحة الحواشي وما يقابلها في المتن، وغيرها من الأمور العلمية والمنهجية والشكلية التي لا يمكن أن تظهر إلا بالمراجعة والتدقيق.
إنَّ على الباحث -الذي يرغب أن يكون (جادا)، ويريد أن يُقدِّم دراسةً (جيدة)- العناية بهذه الصفات، وبذل كلِّ الجهود لتحقيقها في نفسه وفي دراسته، كما أنَّ على الأساتذة والمشرفين مهمةً جسيمة، تتمثَّل في تنمية هذه الصفات وتطويرها في الباحثين، ومتابعتها بدقَّةٍ فيهم وفيما يُقدِّمونه من بحوث، وإهمالُ كلِّ ذلك والتكاسل عنه هو ما أخرج لنا جيلاً ضعيفا، لا يعرف من إعداد البحوث إلا النسخ واللصق، أو تكليف إحدى المكتبات للقيام به، في ظلِّ تساهل الأساتذة في تدقيق هذه البحوث، وتكاسلهم عن تقويمها وتصحيحها، والله المستعان.