فتشوا صفحات تاريخ كل الأمم العظيمة التي سادت - بما في ذلك الحضارة الإسلامية - فستجدونها حتماً أمة مبدعة في الفكر والثقافة والفنون والآداب.
والتحول الوطني الشامل حتى ينجح في نقل أي أمة إلى مستويات مرتفعة من الرخاء والتنافسية والإنتاجية، فهو ذلك التحول الذي يراعي مناحي الحياة كافة، ويوفر أجواء صحية من الانفتاح الفكري الذي يطلق طاقات الإنسان نحو البناء والإبداع واستثمار مواهبه، من دون أي قيود من أي نوع.
**
برنامج التحول الوطني في المملكة لامس بعض هذه الجوانب حيث نصت رؤية 2030 على: «سندعم الموهوبين من الكتّاب والمؤلفين والمخرجين والفنانين، ونعمل على دعم إيجاد خيارات ثقافية وترفيهية متنوّعة تتناسب مع الأذواق والفئات كافّة، ولن يقتصر دور هذه المشروعات على الجانب الثقافي والترفيهي، بل ستلعب دورًا اقتصاديًا مهمًا من خلال توفير العديد من فرص العمل وبحلول عام 2020م سيكون هناك ـ بإذن الله ـ أكثر من (450) نادي هواة مسجل يقدم أنشطة ثقافية متنوعة وفعاليات ترفيهية وفق منهجية منظّمة وعمل احترافي».
**
الهيئة العامة للترفيه - وهي أحد أميز مخرجات الرؤية- تؤكد حرصها على بناء قطاع قوي لتعزيز صناعة الترفيه بالمملكة، بحيث يكون ذا إسهام فعال في الاقتصاد الوطني وكذلك في خلق فرص عمل ملاءمة للمواطنين وفرص استثمار لرواد الأعمال، وفي ذات الوقت استثمار مواهب وإبداعات بناء وبنات الوطن..
وقد بدأت هذه الهيئة الفتية - التي تواجهها الكثير من التحديات - الإشراف على تنظيم عدد من الفعاليات المتميزة، شهدت جميعها إقبالاً كبيرًا من العوائل السعودية، التي كان كثير منها يسافر كل إجازة خارج المملكة لحضور ذات الفعاليات. ولن يكون من المبالغة أن نزعم أن العائلة السعودية كانت وما زالت شريحة مستهدفة للفعاليات الترفيهية في كثير من الدول المجاورة نظرًا لقوة قدرتها الشرائية. ولعل هذا ما يؤكد أهمية إنشاء الهيئة العامة للترفيه لدى قطاع واسع من المجتمع من حيث خلقها لقيمة مضافة في الهيكل الاقتصاد الوطني، وكذلك عملها لتلبية الطلب المحلي للفعاليات الترفيهيه.
وهذا ما جعل كثيرين «يصفقون» لها، حين يذكر اسمها من قبل حضور الفعاليات التي تشرف على تنظيمها، وآخرها في فعالية اكتشاف المواهب التي نظمتها قناة أم بي سي مؤخراً، في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية.
**
مدينة الملك عبدالله الاقتصادية «كيك» أحد الأماكن البكر التي يمكن أن تكون «أيقونة» لتحقيق بعض الرؤى «الشبابية التي تضمنها برنامج التحول الوطني، ومن ذلك أنها أحد أنسب المواقع الجذابة لتنظيم الفعاليات الثقافية والترفيهية المختلفة، وهذا ما تؤكده الأرقام القياسية التي تحضر الفعاليات التي تقام فيها، ومن ضمنها فعالية «حكايا مسك» التي نظمتها مؤسسة الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز «مسك الخيرية»، وشهدت خلال 3 أيام عدد من الأنشطة الشبابية المتواصلة، حيث تم تدريب المشاركين على مبادئ وأساسيات في الكتابة ومهاراتها المتنوعة، والرسم بطرق متعددة، وفنون تركيب وتحريك الرسوم، وإنتاج الأفلام ومقاطع اليوتيوب، وحضرها 66 ألف زائر.
مدينة الملك عبدالله الاقتصادية التي بدأت مؤخرًا شق طريقها للمستقبل ببنية تحتية متكاملة في النقل منها قطار الحرمين السريع ومنها الميناء هو الأكثر تطورًا على سواحل البحر الأحمر وأسرعها نموًا بطاقة استيعابية وصلت الآن نحو 4 ملايين حاوية سنوياً، وبالقرب منه منطقة صناعية متطورة تضم مصنعين لشركتين من أكبر عشر شركات تصنيع أدوية في العالم، هما فايزر وسانوفي، وبمنطقة المارينا وهي في غاية الجمال تخطيطًا وتشجيرًا وبنيانًا، وعلى شواطئ بكر كانت تحيط بها صحراء قاحلة غير مستغلة سابقًا، واليوم تدار من قبل القطاع الخاص بالكامل، وبجوارها أقيم عرض اكتشاف المواهب الذي ينظم لأول مرة في المملكة بدعم من الهيئة العامة للترفيه، وقد نفذت تذاكره في كل الأيام الثلاثة التي نظم فيها، وتم تمديد العرض ليوم رابع لتلبية الطلب المتزايد.
**
ختامًا نعود للترفيه، الذي لا شك في أهميته لتحقيق العديد من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وإدخال السرور على مجتمع يوصف بالتشدد، ويحتاج إلى تغيير الصورة الذهنية السائدة عنه، ولكن بدأ في مهاجمة «الترفيه» بعض الذين يقفون ضد كل جديد، والبحث عن سلبيات من الطبيعي أن تصاحب أي تجربة حديثة.
مع وجود أغلبية صامتة لا تعبر نظريًا عن رأيها في سجالات جدلية، وتعبر عمليًا عن حاجتها لمناشط ترفيهية متنوعة من خلال كثافة حضورها وتفاعلها، بينما هناك من لا تعجبه بعض هذه المناشط والفعاليات وينتقدها، هذا بالتأكيد أبسط حقوقه، بل من واجباته الوطنية، لتطوير هذه الفعاليات، متى ما كان نقدًا موضوعيًا، وليس لمصادرة حقوق الآخرين في حضور الفعاليات التي تعجبهم، ولا تعجبه هو!.
- ناصر العيسى