الحمد لله القائل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
لقد وافت المنية الصديق الزميل الدكتور أحمد خالد البدلي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر صفر 1437 هـ في مدينة الرياض، ونقل جثمانه إلى مكة المكرمة للصلاة عليه ودفنه، حسب وصيته - تغمده الله بواسع رحمته، وجعل كتابه في عليين، واخلفه في أهله من الفائزين -. اللهم أكرم نزله، ووسع مدخله، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار.. اللهم آمين.
وقد آلمني أشد الألم وأحزنني خبر وفاته الذي تلقيته عبر رسالة من الجوال صباح يوم السبت. والأخ أبو مالك كان يعاني منذ سنوات اعتلالاً في صحته إلا أن حالته كانت مستقرة. جعل الله ما جاءه تكفيرًا لسيئاته، ورفعة لدرجاته.
ولقد وُلد ونشأ في مكة المكرمة يتيمًا، وبعدما بلغ السادسة من العمر أُدخل دار الأيتام التي درس فيها الابتدائية، وبعد حصوله عليها التحق بالمعهد السعودي في مكة بالقسم الداخلي فيه، الذي خصصته الدولة للطلاب المغتربين في مكة، أو من ليس له عائل، والذين يواصلون الدراسة إما في كلية الشريعة أو في المعهد العلمي السعودي أو في مدرسة تحضير البعثات، والذي هيأته الدولة بكل وسائل الراحة من سكن وإعاشة.
وهكذا تعرفتُ على أبي مالك في القسم أثناء دراستي في مدرسة تحضير البعثات، ونشأت بيننا صداقة متينة. وبعد تخرجنا من الثانوية ابتُعثنا سويًّا إلى مصر, حيث التحق بقسم اللغة العربية، بينما التحقتُ بقسم التاريخ. وفي القاهرة كان نقابل بعضنا بعضًا من وقت لآخر، ثم عدنا معًا إلى أرض الوطن (إلى الرياض)؛ لنعمل سويًّا في جامعة الملك سعود حتى تم ابتعاثنا للدراسة العليا في بريطانيا. وبدلاً من السفر مباشرة إلى لندن وضعنا برنامجًا، تم على أساسه أن نأخذ أوروبا بالتدرج؛ لنتعرف عليها؛ فبدأنا باليونان, ثم إيطاليا فسويسرا، وأخيرًا لندن. وقد توثقت الصلة بيننا أكثر فأكثر في هذه الرحلة. ومن الجدير بالذكر أنه - رحمه الله - دوَّن مشاهداتنا، وأبدى ملاحظاته عن كل بلد، وكتبها في مذكراته الشخصية التي أرجو أن ترى النور. لكنه لم يمكث في لندن سوى بضعة أشهر؛ لأنه اكتشف أنه سوف يتقن اللغة الإنجليزية ولن يتمكن من دراسة اللغة الفارسية التي أُرسل لدراستها كما ينبغي؛ لذا طلب الانتقال إلى إيران؛ إذ حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة طهران. ثم التقينا مرة أخرى في جامعة الملك سعود حيث ذكر لي أنه ينوي الزواج، ويبحث عن سكن؛ فاقترحت عليه أن يسكن في العمارة التي أسكنها أنا والأخ الصديق عبدالرحمن الأنصاري - شفاه الله -، فوافق، وهكذا تقوت العلاقات العائلية بيننا. وعندما تم تكوين جمعية التاريخ والآثار شاركنا - رحمه الله - في رحلاتنا الأولى التي قام بها قسم التاريخ آنذاك لاكتشاف المواقع الأثرية والتاريخية في الفاو والعلا، وأيضًا رحلتنا سنة 1389 إلى القصيم وحائل فالعلا وتيماء؛ إذ قطعنا فيها الكثير من الفيافي والقفار لدرجة أن إطار السيارات أصبحت غير صالحة؛ ما اضطرنا إلى أن نبقى في العشاش (وهي قهوة تقع في الطريق بين المدينة وتبوك) لبعض الوقت ريثما يعود الأخ أحمد - رحمه الله - بعدد من الإطارات الجديدة.
وعلى العموم، فالدكتور أحمد خالد البدلي مربٍّ فاضل، تخرج على يده المئات أو الآلاف من الطلاب أثناء عمله أستاذًا للغة العربية؛ إذ درس الأدب العربي واللغة الفارسية، كما قام بتدريس اللغة الفارسية في عدد من المعاهد.
وكان له محاولات صحفية؛ إذ كان له باب في صحيفة الجزيرة. وإلى جانب ذلك تقلد مناصب عدة، منها رئاسته لقسم الإعلام في كلية الآداب بجامعة الملك سعود، وكان أول رئيس له، ثم عمل عميدًا لمعهد اللغة العربية لغير الناطقين بها، ووكيلاً بعد ذلك لعميد كلية الآداب.
وفي الختام أحب أن أشير إلى أنه كان - رحمه الله - دمث الخلق خفيف الظل، لا يمل الجلوس معه؛ لأنه يتمتع بروح مرحة إلى أقصى حد؛ إذ يروي الفكاهات ويؤلفها أحيانًا، وهو طيب حساس، لا يستشف منه ذلك. ولا يسعني إلا أن أعزي نفسي وزوجته المصونة الوفية وابنه مالك وبناته الكريمات وأقربائه.. والعزاء موصول لكل أصحابه وطلابه.
إني معزيك لا أني على ثقة
من الخلود ولكن سنة الدين
فما المعزي بباق بعد صاحبه
ولا المعزى وإن عاش إلى حين
- د. محمد سعيد الشعفي