د.فوزية أبو خالد
يبدو العنوان مفارقة لسببين: السبب الثاني يكمن في صعوبة تصور أي علاقة معنوية أو مادية بين الصبا وبين الحاجة إلى استراحة، فكما أن استراحة المحارب نقيض لحالة الحرب وبحث عن مفر -ولو وقتياً- من أتونها، فإن الاستراحة بالمعنى اللغوي هي نقيض الصبا بتموجه وحيويته ونشاطه، وهو الحالة التي ليس من أحد إلا ويود أن يفر إليها لا أن يفر منها.
أما السبب الأول لمفارقة العنوان -وهو الأهم- فيرجع ربما لأن الاستراحة ارتبطت بمسمى الشباب ولم تدرج على لسان المجتمع قط كلمة استراحة صبايا، فالشباب من الذكور فقط هم المقبول منهم عادة أن يكون لديهم استراحات، ويذهبون ويأتون من الاستراحة في قبول اجتماعي أريحي مع وجود الشباب بالاستراحة.
وقد درج بالمجتمع السعودي أن بعض الشباب يستأجر «بالقَطَّة» استراحة بشكل سنوي ويستقدمون لها من يقوم على تولي أمرها بالتنظيف والحراسة وتلبية طلبات الشاهي والقهوة وربما الشيشة «للكيِّفين» أو «المبتلين» منهم بالكيف، وجلب العشاء من العشوائيات والمطاعم الشعبية ومطاعم الوجبات السريعة التي تنتشر عادة في مناطق الاستراحات، ليرتادها الشباب (المتشارك، لمن لا يعرف المعنى السعودي الشعبي للفظ «القَطَّة « في تكلفة الاستئجار، وراتب الحارس والتأثيث إن لزم الأمر لشاشات عرض سينمائي للبث الفضائي أو ما شابه), مرة أو مرتين في عطلة نهاية الأسبوع.
والواقع أن سيسيولوجيا الاستراحة الشبابية مثلها مثل سيسيولوجيا الاستراحة الأسرية بالمجتمع السعودي ظلت من الظواهر التي على تقادمها النسبي لم تدرس حسب علمي من منظور التحليل الاجتماعي الذي يقوم بقراءتها قراءة موضوعية معرفية, إلا أنه يمكن القول -باختصار قد يكون مخلاً-: إنها ظاهرة أفرزتها طبيعة التأرجح السعودي المعتاد بين قبول ورفض التغير الاجتماعي الذي لا مناص للمجتمعات منه، سواء في البنى أو العلاقات أو أنماط السلوك أو منظومة القيم. فكان اختراع الاستراحات نتيجة تلك التغيرات الاجتماعية التي أدت إلى ظهور الحاجة الاجتماعية إلى متنفس عام للمجتمع، لكن هذه الحاجة الاجتماعية المشروعة الناتجة عن تغيير البنية التحتية للعلاقات الاجتماعية وللمدن معاً اضطرت لأن تتلبس بلباس المسمى السعودي الشهير «الخصوصية السعودية». وهذا فيما أجتهد ما نتج عنه هذا الشكل من المكان المسمى الاستراحة ليلم شعث الأصدقاء في فسحة صغيرة بعيداً عن ضغوط الجدران، وإن جاء الاختراع مسوراً بالجدران.
وقد ظل هذا الاختراع (الاستراحة) مقصوراً إما على التجمعات الأسرية أو على تجمع الشباب من الذكور, وبالتالي فإن إعطائي للمقال عنوان «استراحة صبايا» يبدو مفارقة غير معهودة. هذا مع العلم أن العنوان للشفافية ليس من ابتكاراتي اللغوية في اللعب بالكلمات كعادة الشعراء ولكنه عنوان مستعار من مسمى (جماعة واتساب) مؤقتة أقامها بعض الزميلات بهدف محدد هو متابعة ترتيبات اقتراح بالخروج إلى استراحة لمدة يوم واحد من العطلة الأسبوعية، نلتقي فيها ببعضنا البعض وبصحبة أطفالنا إن شئنا بعيداً عن ضغوط العمل وروتينه اليومي.
غير أن استراحة الصبايا هذه على توقيتها وقصرها ولقائها الخاطف الذي لم يتعد سحابة نهار واحد، قد قدمت لي شخصياً حلماً أطول من ساعات النوم، وفتحت لي نافذة أوسع من مجموع الجدران الأربعة التي كانت تسور المكان. فباستثناء الوقت المفعم بالحبور والمرح الذي مر بأسرع من لمح البصر في لقاء زميلات يجمعني معهن تاريخ من شجن مشتركات العمل والأمل، فقد فتح عيوني الخروج إلى استراحة في إحدى مناطق الاستراحات التي تقع على امتدادات الجهات الأربع لمدينة الرياض على أسئلة لم تكن بالحسبان. فمما تكشف لي عني وساءني مني هو مدى بعدي ككاتبة عن آلام المجتمع وأوجاع المدينة التي أعيش بها وأسميها، الرياض فراشي الأول ولحافي الأخير, دون أن أكلف نفسي عناء تفقد أحيائها القريبة والبعيدة دورياً على الأقل حفظاً لأمانة الكلمة. فياللمفارقة مرة أخرى بين ما يجب أن نكون عليه وبين ما نحن عليه في الواقع.
أما ما أثارته رحلة الاستراحة من أسئلة عامة فيمكن إشراك من يهمه الأمر في بعض منها على التوالي:
السؤال الأول: أين البلدية عن هذه الفوضى العارمة في التمدد الأفقي لمدينة الرياض؟، هل نسير على هدى في تخطيط المدينة أو نضرب أفقياً في الآفاق ولا نعرف إلى أين يمكن أن تقودنا خطانا خارج أي مخططات منضبطة؟.
السؤال الثاني: أين المجالس البلدية المنتخبة عن أحياء الاستراحات المرصوفة في كل شبر منها (والله كل شبر) بالأوساخ من بقايا البناء والأكل إلى فضلات آدمية تزكم روائحها المكان؟. وهذا السؤال عن مدى القاذورات التي تسبح فيها مناطق الاستراحات يبدو ترفاً إذا كانت البلدية أو مجالسها المنتخبة لم تستطع أن تحرك ساكناً في أغلى الأحياء التي يزيد المتر المربع فيها على 3 آلاف، مما يعج بالأكياس السوداء المنبعجة المخفورة بكل أنواع الهوام دون حاويات إلا براميل الفضلات الصفراء التي لا تسع أكثر من 3 أكياس بينما كل شارع في الحي الواحد يتكون من أكثر من عشرة بيوت.
السؤال الثالث: أين نزاهة؟، هل هي فقط مسؤولة عن الفساد الإداري في الأبراج العاجية لمكاتب الوزارات؟، لماذا لا يكون عندنا نزاهة في الشارع وفي الأحياء القريبة والبعيدة وفي كل موقع قدم من الأماكن العامة؟.
السؤال الرابع: ما الرؤى الوطنية إذا كانت لا تنطلق من الأرض ومن القاع؟، وفي هذا السؤال أهيب بالأمير محمد بن سلمان وبالأمير فيصل بن بندر أن يقوم كل منهما بنفسه -رغم أن هذا قد لا يكون من عمل أي منهما مباشرة ولكنه وطننا ووطنهما- بالتجول في شوارع مدينة الرياض وأحيائها والوقوف على مناطق الاستراحات على سبيل المثال؛ ليروا بأم الأعين كيف يهدر جمال مدينة شامخة مثل مدينة الرياض بإغراقها في بحر من الفضلات والأتربة والمخلفات.
السؤال الخامس: أين حس الوطنية عندنا كشعب سعودي إذا كنا نعجز عن الحفاظ على نظافة بلادنا؟. أي علم لا يعلمنا أن النظافة في الوطن كما في النفس والبيت من الإيمان!.
السؤال السادس: لماذا لا تكون هناك رقابة صارمة؟، ولماذا لا يكون هناك غرامة موجعة على كل من يرمي ولو ورقة كلينكس في الشارع أو من يرمي أكياس فضلات بيته عشوائياً في الحي؟، ولكن بعد توفير نظافة للأحياء وحاويات مغلقة وتنظيفها أولاً بأول وليس تركها تمتلئ لأيام.
***
وأخيراً أختم بالعودة إلى عنوان المقال «استراحة صبايا» لأقول إن تجربة الخروج كسيدات للاستراحة أشعرتني كم نحن كمجتمع محتاجين بقوة لقوانين صارمة تقوم بردع أي نوع من أنواع التحرش وإن كان لفظياً, وتضرب بيد من حديد على يد كل من تسول له نفسه الإخلال بأمن النساء في الفضاء العام. فمن حق النساء على الوطن ضمان بيئة صديقة غير طاردة تحفظ للنساء كرامتهن في الفضاء العام.
الوطن وطن للجميع النساء والرجال، ولن يكون وجود المرأة في الفضاء العام موضع ترحيب واحترام من الجميع إلا في ظل قوانين تخرج المجتمع من ذهنية الاستقواء على النساء واستسهال تجريحهن.