د. خالد محمد الصغِّير
ها نحن على أعتاب عام دراسي جديد تدب معه الحياة مجدداً في أروقة مدارسنا، ومعاهدنا، وكلياتنا، وجامعاتنا، ومعها تبدأ العملية التربوية بالدوران والركض مجدداً حيث يلتقي أبناؤنا الطلاب والطالبات بمعلميهم ومعلماتهم بتحفُّز لتلقي ما سينثرونه على مسامعهم من معلومات ومعارف تزيد من إدراكهم ومحصولهم العلمي. وهنا أجدني مضطراً للتوقف عند محطة تربوية أجدها في غاية الأهمية متمنياً أن تكون الهدف ذا الأولية الذي يسعى لتحقيقه هذا العام كل تربوي يتصدى لتعليم وتربية فلذات أكبادنا في مؤسساتنا التعليمية المنتشرة في طول وعرض بلادنا الغالية.
التلقين والحفظ والاسترجاع تأتي كلها على رأس الممارسات التربوية التي تُسيّر العملية التربوية داخل أروقة فصول مؤسساتنا التعليمية، وهي ممارسة تقليدية قتلت روح الإبداع، والتفكير بشكل فعّال، والقدرة على التحليل المنطقي للمعلومة المتلقاة لدى متعلمينا. والخلاص من مهارات التفكير الدنيا تلك يتم عن طريق تدريب الطلاب على مهارات، أو مستويات التفكير العليا الذي اُصطلح عليه تربوياً بالتفكير النقدي، أو الناقد (Critical thinking) بشكل يجعلهم بدلاً من مجرد حفظ ما يقدم لهم من كم معرفي، واستظهاره كما هو لاحقاً قادرين على إخضاع ما يتلقونه من معلومات للفحص، والتأمل، والتحليل ومن ثم قبولها، أو رفضها بناء على اعتبارات وأسس صحيحة.
وقبل الخوض في تفاصيل ما يمكن عمله لغرس هذا التوجه التربوي المهم في أذهان أبنائنا الطلاب والطالبات أود أن أتوقف برهة لتعريف التفكير الناقد، ومن ثم أستعرض العناصر المكونة له، ثم بعد ذلك نتعرض باقتضاب لأهميته. التفكير الناقد في أبسط معانيه - كما أشارت إلى ذلك العديد من الدراسات التربوية والنفسية - تفكير يعتمد على التحليل، والفرز، والاختيار، والاختبار لما يقع بين يدي الفرد من معلومات بهدف التحقق من تلك المعلومات، وصحة مصادرها، ومن ثم التوصل إلى حكم سليم تجاه تلك المعلومات والآراء المطروحة. أما فيما يتعلق بالركائز الرئيسة المكوّنة للتفكير الناقد فهي تتمثّل في مهارات إجرائية أربع هي: التحليل، والاستنتاج، والتفسير، والتقويم. فالتحليل يتطلب القدرة على تحديد سبر غور المعنى الخفي، أو غير المذكور بشكل غير مباشر في المعلومة المقدمة للمتعلم، والتعرف على الأجزاء والعناصر المكونة لها، والعلاقة بين أطرافها المتعددة. وفي المقابل نجد أن الاستنتاج يعني قدرة المتعلم على التعرف والتوصل إلى العناصر التي تؤدي إلى التوصل إلى تفسير منطقي سليم، بينما التفسير يعني القدرة على معرفة الغاية غير المنطوقة في المعلومة المقدمة، وأما التقويم فيعني مقدرة المتعلم الحكم على مصداقية، وصحة المعلومة المقدمة له. ومن هنا يمكن القول إنه يتألف من مجموعة من المهارات التي يمكن تصنيفها إلى ثلاث فئات رئيسة هي التحليل، والتركيب، والتقويم.
وأهمية تنمية التفكير الناقد لدى طلابنا وطالباتنا تكمن في ضرورة تبني إستراتيجيات تدريسية جديدة تتناسب مع الاتجاهات التربوية الحديثة التي تنادي ببناء القدرات والمهارات التي يحتاجها متعلم اليوم، وإعداد المتعلمين للتعامل مع مصادر معلوماتية متعددة في عصر التقنية، والانفجار المعرفي الهائل، والحرص على تقديم تعليم نوعي متقدم لأبنائنا الطلاب والطالبات، وبالتالي تخريج متعلمين ذوي قدرات فائقة ومسلحة بلغة العصر الحالي، ومفاهيمه، وآلياته بقدر يجعلهم قادرين على التعامل بكفاءة مع واقع، ومتطلبات، وقضايا عصرنا الحاضر.
وتنمية التفكير الناقد لدى طلابنا وطالباتنا يقود من منظور تربوي إلى تحقيق جملة من الفوائد التربوية والشخصية. فامتلاك مهارات الفكر النقدي يجعل الطلاب متى ما قدمت لهم معلومة ذوي قدرة على النظر ملياً في مكوناتها، وتحليلها، واتخاذ القرار الملائم تجاه تلك المعلومة، أو لنقل التعامل معها بطريقة ملائمة تجعلهم يتحاشون التعامل معها من خلال حكم مسبق جاهز، وقادرين أيضاً على التفرقة بين الفرضيات، والتعميمات، والحقائق والادعاءات. والفائدة الأخرى تكمن في جعل الطلاب قادرين على الحكم بدرجة كبيرة على مدى مصداقية تلك المعلومة، وتقييم أسبابها، ومبرراتها بناء على تفكير منطقي سليم، وشواهد واقعية تدعم صحة الآراء المطروحة في وجهة النظر المقدمة في تلك المعلومة، أو الرأي المطروح، وكذلك إثارة التساؤلات التي من شأنها تعميق فهمهم للقضية المطروحة للنقاش. وإلى جانب ذلك تؤدي إلى تعميق فهم الطلبة للمحتوى العلمي المتعلم، وجعلهم مستقلين في أفكارهم، كما أنها في الوقت نفسه تبث فيهم روح التساؤل، والبحث، والتحري، وعدم التسليم بالحقائق دون تحرٍ كافٍ. كما أنها تزيد من ثقة المتعلم بنفسه، وتجعله أكثر إيجابية وتفاعلاً في عملية التعلُّم، وتتيح له فرصة النمو والتطور، وترفع من مستوى تحصيله العلمي. وإلى جانب ذلك يكون المتعلم هو محور العملية التعليمية، وتزيد من فرص التفاعل والتعاون بين الطلبة ومعلميهم، وتعزز مسؤولية المتعلم تجاه ما يتعلمه، وإضافة إلى ذلك تشجعه على الاكتشاف والاستقصاء.
وإلى جانب هذه الفوائد التربوية نجد أن تنمية الفكر الناقد لدى الطلاب تعمل على تشكُّل سمات شخصية تتمثَّل في جعل الطلبة قادرين على عرض وجهة نظرهم حيال العديد من القضايا والأفكار من خلال اختيار أفضل الطرق والوسائل التي تجعل عرضهم لوجهة نظرهم تقابل بكثير من الاحترام والتقدير من قبل الآخرين؛ وذلك بسبب تلقيهم التدريب الكافي على التفكير العميق، وإعمال النظر ملياً فيما هم مقدمون على قوله. وبالإضافة إلى ذلك نجد أن امتلاك تلك المهارة يجعل من أبنائنا الطلاب والطالبات يتخذون مواقف أكثر عقلانية وحكمة تجاه ما يتعرضون له من مسائل وقضايا وذلك بسبب نظرتهم لها من خلال زوايا رؤى يشوبها المنطق، والدقة، والموضوعية. وبالإجمال يمكن القول إن التفكير الناقد يؤدي إلى أن يكون لدينا نوع من التلاميذ الذين يمتازون بالمعرفة العالية، والذهنية المنفتحة، ويمتازون بالمرونة، والموضوعية في الحكم على الأمور، والرصانة عند التعامل مع الأفكار المتحيزة، والدقة في إصدار الأحكام والآراء، وأيضاً تجعلهم قادرين على اتخاذ القرار المناسب أمام الآراء والمعلومات المتعددة والمتجددة بسبب ما نشهده من تغير علمي وتكنولوجي واجتماعي متسارع في عالم اليوم. وكل ذلك يمكن ترجمته بعبارة مفادها بأن تنمية ملكة التفكير الناقد يسهم في تشكيل أسس ومبادئ القدرة على الفهم، واتخاذ القرارات، ويؤسس لمهارات البحث والاستقصاء، كما أنها في الوقت نفسه تزيد من دافعية وإقبال الطلاب على التعلم لأنهم في ظل ذلك سيكونون محور العملية التعليمية.
والسؤال الذي يطرح نفسه ما هي الوسائل والطرق التي يمكن استخدامها لتنمية مهارات التفكير الناقد لدى طلابنا وطالباتنا والمتمحورة حول المهارات الأربع الاستقراء، والاستنباط، والتحليل، والتقويم مبتعدين بذلك بهم مسافات عن ممارسة التلقين المعتمد على قدرات التذكر والحفظ وهذا يتطلب منا إعادة النظر في عدد من الإجراءات على الصعيد الرسمي والممارسة التربوية والتي منها. ينبغي أولاً أن يكون هناك تبنٍ رسمي من مسؤولي التربية لهذا التوجه التربوي الذي يتوافق مع مستحقات الفترة الراهنة التي تتطلب إعداد متعلمين لا يمتلكون فقط المعارف، وإنما قادرون على التفكير في المحتوى العلمي، ومحاكمته، وتوظيفه التوظيف السليم، ثم ينبغي كذلك أن يخطو مسؤولو التربية خطوة أخرى تتمثّل في محاولة الاستفادة من التجارب الدولية في الحقل ومن ثم تطويع تلك التجارب لتتناسب مع واقعنا وقيمنا. وهم أيضاً بحاجة إلى إعادة النظر في المناخ التربوي من أجل ضمانة اكتساب الطلبة لمهارة التفكير الناقد، ومن ثم تنميته، وبعد ذلك العمل على ممارسته على أرض الواقع.
وبعد تهيئة المناخ التربوي المناسب يمكن تطبيق الأسلوب التكاملي في تعليم التفكير الناقد وذلك يتطلب إدراج مهارات التفكير الناقد ضمن المحتوى المعرفي المراد تدريسه وتدريب الطلاب على المهارات التي تتماشى مع محتوى الدرس. ثم يقوم المعلم بتدريس الطلاب بطرق تختلف عن الطرق التقليدية المعتادة تمنح المتعلمين فرصة التأمل، وتحثهم على المشاركة والتفاعل مع ما يطرحه أمامهم، ويطرح عليهم ما يستثير أذهانهم، ويستدعي التحليل، والمقارنة، والاستنتاج. وذلك يعني أننا بحاجة إلى إعادة صياغة أدوار المدرسين والطلبة، وكذلك السعي لتغيير طرائق التدريس، وأدوات وأنواع القياس. وقبل ذلك نحن بحاجة إلى تدريب المعلم وتزويده بمهارات التفكير الناقد حتى يمكنه نقل خبرته ومعرفته تلك إلى طلابه، وهم كذلك بحاجة ماسة إلى معرفة أساليب تدريس التفكير، وكذلك معرفة كيفية قياس وتقييم مهارات التفكير الناقد لدى طلابهم.
إن الناظر في حال تعليمنا اليوم يدرك أنه تعليم تقليدي يركز كثيراً على الرفع من الحصيلة المعلوماتية لدى أبنائنا الطلاب وبناتنا الطالبات من خلال تكريس مبدأ الحفظ، والتلقين، والتذكر وهذا أدى إلى التقليل كثيراً من كفاءة وقدرة طلابنا وطالباتنا، وعدم إعدادهم بطريقة تكفل تعاطياً سلساً مع معطيات العصر، واستيعاب متغيراته المتجددة نظراً لعدم مدّهم بمهارات التعليم الناقد التي يمكن أن ينقلوها معهم إلى أي موقف معيشي ربما يمرون به، أو يمارسونها على أرض الواقع في ميدان الأعمال التي سيعملون فيها في المستقبل مما جعلنا نفتقر إلى كفاءات نوعية يقدمها تعليمنا تمتاز بالإبداع، والنشاط، وفوق ذلك بالمهارات الاستثنائية المتمثلة بالتحليل، والتركيب، والاستنتاج، والتطبيق. ومن هنا أجدها فرصة لتذكير من يقومون بتربية جيلنا الناشئ بعدم التوقف فقط عند توسيع معارف ومعلومات الطلاب، وإنما هم بحاجة إلى تجاوز ذلك والعمل على تحفيز وإعمال واستثارة عقول طلابهم. ونجاحهم في إعمال عقول طلابهم يعمل على إحداث تحول دراماتيكي في العملية التعليمية؛ إذ يحوّلها من عملية خاملة لا حياة فيها إلى دبّ مزيد من التفاعل والنشاط فيها مما يؤدي في نهاية المطاف إلى استيعاب وإدراك أوسع للمادة العلمية المدرسة، وقدرة على ممارسته وتطبيقه في الواقع المعاش.
وأجد أنه من كفاية القول إنه ومن خلال بناء مَلكة التفكير الناقد لدى طلبتنا نكون قد ساهمنا بذلك في مساعدتهم على أن يعيشوا وفق مستحقات عصرهم، وجعلهم قادرين وبامتياز على استيعاب متغيراته المتسارعة المتجددة، ولديهم القدرة على التعامل بكفاءة مع قضايانا المحلية. أملي ونحن في مستهل عام دراسي جديد أن يسعى كل مدرس ومدرسة لأن يعمل كل ما في وسعه لتنمية ملكة التفكير الناقد لدى أبنائنا وبناتنا الطالبات. وكل عام والجميع بخير.