«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
الأيام تمضي بنا سريعة الخطى.. تتلاحق فيها الأحداث والقصص والحكايات.. بعضها ينطبع في الذاكرة لصلتها بحادثة ما.. مهمة أو عزيزة.. فيجدها تنهض أمامه فجأة بتفاصيلها المختلفة كافة.. والكثير منها يتلاشى مع الأيام.
هكذا يجد نفسه مسترخيا ًفي هدوء. في أعمق أعماق الذاكرة.. منتظراً مناسبة ما أو حادثة لتقفز أمامنا تذكرنا بما مضى وانقضى من أحداث أو قصص أو حكايات.. وكثيراً ما تلعب المصادفة وحدها في تحريك ما في أعماق الذاكرة من حكايات أو مشاهد.. فنحن لا ننسى بعض أحداث الطفولة المحببة وحتى الحميمة مع أقراننا الأطفال.. بنين وبنات.. لا ننسى ألعابنا الأولى معهم.. نذكر حتى طريقة مشيهم وأحاديثهم ولثغتهم. والأهم إننا نذكر وجوههم الطفولية البريئة الجميلة وابتساماتهم البسيطة التي تسافر داخل الأعماق.. ومع هذا هناك من يسكن منهم أعماق ذاكرتنا.. بل ويحتل مساحة طيبة فيها.. ومواقف عديدة في حياتنا لا تنسى أبداً.. مثلا مشاهد الختان التي كانت تجرى على يد الحلاق أو (المحسن) في مدينتنا الصغيرة في ذلك الوقت وما زال صاحبنا يذكر هذا المحسن وكيف قام بمهارة وخفة بختانه على صدى صراخه وصياحه وحتى شتمه لكل من حوله من رجال خاله الأشداء الذين أمسكوه من قدميه ووسطه بصورة لم تدع له فرصة الحركة أو الإفلات حتى من قبضة أياديهم الخشنة من فرط العمل.. بل أن أظافر أحدهم الطويلة تركت أثاراً مؤلمة في ظهره.. ومع هذا انتهت المهمة بسلام وسط التبريكات والأدعية ودموع لم تتوقف إلا بعد ساعات.. لكن سيل اللعنات التي أطلقها على (المحسن) طوال ذلك اليوم ضج بها بيت خاله.. نعم إنه يذكر جيداً كل تلك التفاصيل عن يوم (الختان) وكيف حرصت والدته -رحمها الله- على استحمامه في ضحى ذلك اليوم قبل العملية ببضع ساعات.. ومع أنه كان صغيراً في ذلك الوقت فهو لم يتجاوز السابعة من عمره فقد شعر أنه دخل مرحلة جديدة من حياته.. هكذا كان يسمع من أحد أبناء عمومته بأنه سيصبح بعد (الختان) رجلاً وسوف يلج عالم الرجال من بابه الواسع..!! كانت معلوماته الطفولية الساذجة عن عالم الرجال لا تتعدى ما يسمعه في مجلس خاله من أحاديث مختلفة.. بعضها لا يفهمه وعقله الصغير لا يستوعب معانيها وكلماتها غير المفهومة لديه.. لكنه يذكر جيداً حديث الشيخ عبد الرحمن المبارك أبي إبراهيم -رحمه الله- في مسجد طاهر بجوار منزلهم بالسياسب وخلال أحاديث رمضان التي كانت تستقطب نسبة كبيرة من الرجال ومن سيدات الحي الشهير لما يمتاز به فضيلته من حسن الإلقاء وعمق الأداء وسعة ثقافته الدينية التي تجسدت من خلال الحضور الكبير لهذه الأحاديث التي كانت تقام في المسجد بعد عصر كل يوم من رمضان.. إنه يذكر جيداً عند مسأل أحدهم الشيخ الجليل عن الختان وأهميته وراح فضيلته يشير ببساطة إلى أهميته للإنسان المسلم إضافة إلى أن السنة النبوية رسختها كشرط وجوب لاكتمال العقيدة بالنسبة للذكور..!! وفي المساء سأل والده عن (الختان) فيجيب باسماً.. لا تستعجل.. ألم تسمع فضيلة الشيخ المبارك عصر اليوم.. نعم سمعته لكن هناك أشياء لم أفهمها وأريد معرفتها منك.. وبعد تردد راح والده يشرح له أنها عملية بسيطة ومطلوبة وشخصية الإنسان المسلم لا تكتمل إلا بها.. إضافة إلى التزامه بكل ما له علاقة بالإسلام.. وهي تجربة لا بد للطفل أو للفتى أن يمر بها ولا بد له منها حتى لو تأخر في أجرائها لأسباب ما..
وهكذا، وبعد أيام، أجريت لصاحبنا عملية (الختان)، وصار وهو الطفل الصغير يشعر أنه دخل عالم الفتيان.. لا بل عالم الرجال.. فهل هذا يعني أن هذه العملية التي جعلته يتمدد على ظهره أكثر من يوم وهو متباعد الساقين وكيف كان يتألم ويتوجع عندما يريد أن يتبول..؟!! أترى (الختان) أو الطهارة هي المدخل الرئيسي لعالم الرجال بهذه الطريقة..؟ تساءل كثيراً لكن لم يجد جوابا على تساؤلاته إلا بعد سنوات عندما بدأ يقرأ مجلة سندباد وطبيبك وعرف أهميتها الصحية.. ومضت الأيام والسنوات وها هو اليوم يذكر مشهد (الختان) الذي لم ينسه حتى تفاصيل وأحداث ذلك اليوم يكاد يراها بدقة.. بل إنه لم يتردد أن يقوم برسم أكثر من لوحة تشكيلية عن عملية (الختان) توثيقاً واهتماماً بكل ما له علاقة بالتراث والبيئة في مدينته الأحساء (بيته الكبير) الذي أحب..!! كم هي رائعة حياتنا وذكرياتنا بكل ما فيها من موحيات وتاريخ وأعمال وأحداث لا تنسى أبداً.. ذكره بالختان اليوم مشهد حفيده الصغير وهو يتأوه رافعاً ثوبه بعيداً عن طهارته.. وهو يسير متباعد الساقين.. كما كان يفعل هو وقتها..!! فكانت هذه «الإطلالة»..!