د. حسن بن فهد الهويمل
كُلُّ حَدثٍ جلل يُخَلِّفُ وراءهُ ضحايا: سمعة، وأجساد، وممتلكات. ويُنْشيء خطابات متناقضة، يكشف بعضها عن سوءآتٍ في التفكير، والتعبير، والمشاعر.
حتى يروغ البعض إلى فلتات لسانه، ليدسها في التراب. ذلك بعض ماكان مع الانقلاب العسكري في [تركيا].
عيب مشاهدنا أنها مليئة بالمهتاجين، الذين عناهم الشاعر بقوله:-
[ولَسْتُ بِعَلٍّ شَرُّهُ دُوْنَ خَيْرِهِ
ألَفَّ إذَا ما رُعْتَهُ اهْتَاجَ أعْزلُ]
إذ من الحكمة، والرزانة، والأناة، وحسن التدبير أن يرقب المرء أحداثَ أمته عن بعد، وأن يتيح لنفسه أوسع مساحة، لِيَتأَمَّلَ فيها كافة البوادر، ويحلل جُلَّ الظواهر، ويستبين كل الخيارات. وألا يكون مع بادي الرأي.
فالسياسة [فن الممكن] بحيث لايدري العاقل أمام أحداثها {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}.
بعض كتبتنا في الصحف، والمواقع متسرعون. أصواتهم أصداء لدوي المدافع، وأزيز الطائرات، وهدير الدبابات، يهرفون بما لايعرفون، ويجهلون ما عُلِم من السياسة بالضرورة. قدرهم أن يكونوا [الصدى الحاكي] لا [الطائر المحكي].
[تركيا] دولة إسلامية، حليفة. تشكل لنا في ظل الأحداث الإقليمية عمقًا إسلاميًا، لو سقطت في وحل الربيع، لكنا بحاجة إلى إعادة ترتيب أشيائنا كلها.
ومثل هذا التحرف المفاجئ، والاضطراري، سيضيف على دولتنا أعْباءً فوق أعبائها، وكأني بمن يعنيهم الشأن من رجالاتها، يناجون المصائب الجسام:-
[أَبِنْتَ الدَّهْرِ، عِنْدِي كُلُّ بِنْتٍ
فَكَيْفَ خَلُصْتِ أَنْتِ مِنَ الزِّحامِ؟]
المثير للتساؤل، والاستياء أن الذين رَحَّبوا بالانقلاب العسكري في [تركيا]، لم ينظروا إلى مصلحة بلادهم، ولم يؤثروها على انتماءاتهم.
فهم إما متعلمنون، متطرفون، أو جهلة متحمسون. لقد تكاثر الشامتون، والمباركون للانقلاب، ومادروا أن انزلاق [تركيا] في دوامة الفتن سيرفع معنويات خصومنا الفرحين به.
الانقلاب مُتَوقَّعٌ بعد القرارات التي اتخذها [أردوغان] لاحتواءِ اللُّعَبِ. لقد كشفَ المتداولون للحدث عن جهل بالملابسات، وعن مواقف انتمائية، ماكان لها أَنْ تُؤْثِرَ نَفْسها على الانتماء الوطني. ولاسيما أن الوطن وسع بتسامحه كلَّ الأطياف، وكل النَّافِع من معطيات العصر.
والنظر إلى أحداث عالمنا العربي، والإسلامي بمنظار الانتماء الطائفي، أو المذهبي الضيق، يحجم رؤية وطننا الحضارية الاستيعابية الواسعة.
لا نريد للأحداث المصيرية كافة، أن تكون سبيلًا من سبل الكشف عن هشاشة اللحمة الوطنية عند البعض منا.
يجب ألَّا يعلو على تماسك الجبهة الداخلية شيءٌ، متى كانت معتصمة بحبل الله، آخدة من كل مستجد مفيد بطرف.
أحداث [تركيا] تهمنا، في راهننا، وبقاؤها في معزل يعصمها من التمزق، والتناحر بعض ما نريد.
وهي دولة ذات سيادة، وتقارب وجهات النظر معها، لايعني أن تكون في كل شؤونها رهن إراتنا.
لنا مصالحنا، ورؤيتنا، ولها مصالحها، ورؤيتها. والمطلوب ألا تكون المصالح متعارضة، ولا الرؤى متناقضة. فالمسألة في النهاية تسديد، ومقاربة.
هي دولة [علمانية] كما ينص دستورها، وعلمانيتها خيار مجالسها النيابية، ومن ثم لايستطيع الرئيس المنتخب بحِسِّه الإسلامي العدول المطلق عن العلمنة، بعنف الإسلاميين، ولا الأخذ بها بصلف العلمانيين.
و[العلمنة] بل [اليهودية] و[النصارانية] لاتحول دون المصالحة، والتعاون، وتبادل الخبرات، والأطعمة، والزواج.
ومن ثم لا يعاب الخطاب الإسلامي حين يكون متعاطفًا مع الدولة التركية، لمجرد أنها دولة ٌعلمانية، مادامت لم تُصَدِّر علمانيتها.
[أردوغان] في خضم الأحداث تحول إلى أسطورة، صَنَميَّةٍ عند قوم، وإلى العوبة علمانية عند آخرين.
يتداول هذه السمات كل منتمٍ ضيِّق العطن، ضحل المعرفة، قليل الخبرة، والتجربة. وهو بجاذبيته عَرَّى المختصمين.
وتعاطف الإسلاميين معه له مايبرره. حتى وإن كان على رأس دولة علمانية. فالعلمانية ليست خياره، وليست همه.
وكره العلمانيين له لمجرد أنه أعطى الإسلاميين مساحة كافية لممارسة حقوقهم: عبادة، ودعوة، وحضوراً فاعلًا.
مانود أن يعرفه الفُرقاءُ المتشاكسون، الذين نشروا غسيلهم بالمناكفات، أن تركيا دولة ذات سيادة، وليست ولاية من ولايات حلفائها. بحيث تكون كما يريدون.
إن لها خياراتها، ومشاكلها. والانقلاب الذي فشل جزءٌ من مشاكلها. فالمؤسسة العسكرية التركية لمَّا تزل ذات نفوذ سياسي مؤثر. وهي قد مرَّت بأكثر من انقلاب. من ابشعها انقلاب [كنعان افيرين] الذي أفرز قانونًا يجرم الانقلابات العسكرية.
وهي ذات أعماق علمانية، وصوفية، وعرقية، ودينية: سنية، وعلوية. ومالا حصر له من الأطياف المتصارعة، والأقليات المتوترة كـ[الأكراد].
و[أردوغان] ليس وحده المتعاطف مع المد الإسلامي، لقد سبقه [عدنان مندريس] الذي جُرِّم، وأُعدِم، ثم أعيد اعتباره، وعُظِّم.
ما يحسب لـ[أردوغان] الثائر المثير، الذي أصبح مَزلَّةَ أقدامٍ، ومَضِلَّةَ أفهام، وسطيته، ونجاحه في انقاذ الاقتصاد التركي، وتعاطفه مع الإسلاميين، ولين جانبه مع العلمانيين، وكونه حليفًا مهمًا للمملكة. بحيث يشكل مع [مصر] عمقًا [سنيًّا] نحن بأمسِّ الحاجة إليه، في ظل التفاف الأفعى الشيعية المجوسية الصفوية حول الخليج العربي.
وعلمانيته، وإسلاميته، وتعاطفه مع الإخوان ليست بيت القصيد في ظل الظروف القائمة. كل الذي يعنينا ثقل [تركيا] في الأوساط العالمية، ومشاطرتنا في حمل الهم الإسلامي، والعربي.
لقد ضاعت أربع دولٍ عربية، بسبب تخاذل [الإسلام السِّنِّي]، وفداحة اللعب العالمية، ومهمتنا إنقاذها من السُّعارِ المجوسي، والتمزق الطائفي، والعرقي.
إن علمانية [أردوغان] وتعاطفه مع [الإخوان] التي يلوح بها شانئوه، غير كافية للترحيب بالانقلاب المدعوم من أعدائنا.
والمملكة بسياستها المتوازنة، استوعبت تناقضات [مصر] و[تركيا] لإقالة عثرات مشرقنا العربي.
نحن نعرف حتمية الاختلاف النسبي مع الدول العربية، والإسلامية، والعالمية، ولكن مصلحة [المملكة العربية السعودية] تكمن في غض النظر، واحترام سيادة كل دولة حليفة.
وبقاء [أردوغان] وحزبه على رأس السلطة، هو الخيار الأجدى، لما يتمتع به من خصال حميدة، قلَّ أن تتوفر في غيره.
وخيارات البعض منا الانتمائية، يجب ألا تسبق خيار وطننا. ثم إن الأحلاف لا تقتضي تطابق وجهات النظر والتماثل في كل شيء، فلكل دولة مصالحها، و[استراتيجياتها].
[تركيا] مقبولة فيما هي عليه، شريطة ألا يؤثر اختلاف وجهات النظر على المصالح المشتركة، وبحيث لايمارس أحد الطرفين تصدير مبادئه، أوفرض إرادته.
إنني أربأ بكافة المصطرعين، ومتداولي الفكر السياسي أن يكونوا كـ[النائحات] المستأجرات، في الأتراح يأخذن بالعويل، ولطم الخدود، وشق الجيوب. وفي الأفراح يأخذن بالمواويل، والمكاء، والتصدية، دون تبصر، أو تأمل.
فالأطراف المتشاكسون بما يتجاذبونه من أحاديث عبر الصحف، والمواقع، يُسْهِمون في تشكيل وعي مزيف.
وحين لايوفَّقون في معالجة الاختلاف، أو في طرائق التأييد، يتركون أثراً سيئًا عند [الرأي العام]. قد تنعكس سلبياته فيما يعقب من أحداث. ولاسيما أن راهن أمتنا يفيض بغثاء التضليل، والتوهيم، والاستدراج.[تركيا] في أجواء الانقلاب، تمر بمنعطفات خطيرة. والعقلاء يحبسون أنفاسهم، فذيول الحدث أخطر من الحدث. والمستقبل عصيّ القراءة. وكل الأصابع على الأزْنِدة. وعلى [أردوغان] وحزبه ألا تحملهم نشوة الانتصار على تجاهل المستقبل الأخطر.