د.عبد الرحمن الحبيب
«خلافة على منهاج النبوة» شعار محرك لأغلب حركات الإسلام السياسي، ونظرياتها السياسية التي تختلف باختلاف تلك الحركات السلمي منها والعنيف، فهل هي نظرية دينية مقدسة أم دنيوية اجتهادية للبشر أم وسط بين هذا وذاك أي بالاستناد على تراث إسلامي؟
إذا بدأنا بالتعريف اللغوي لكلمة «خلافة»، في معجم الصحاح: يقال خَلَفَ فلانٌ فلاناً، إذا كان خليفته، يقال خَلَفَهُ في قومه خِلافَةً؛ ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}؛ وخَلِيْفَتُهُ أيضاً إذا جئتَ بعده. ومن هنا نفهم اللقب الذي أطلقه الصحابة لأبي بكر الصديق بخليفة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أي جاء بعده، لذا عندما تولى عمر بن الخطاب أمور المسلمين نودي بخليفة خليفة رسول الله، ثم استثقل الصحابة نطقها فاتفقوا على تغييرها إلى أمير المؤمنين. هذا يعني أنه لقب إجرائي لقيادة الدولة قابل للتغير وليس اصطلاحاً شرعياً محددًا..
أما اشتقاقات مفردة «الخلافة» التي وردت بالقرآن الكريم: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ}، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ..}، فهي بمعنى خلافة الإنسان في عمارة الأرض كوظيفة إنسانية عامة، وليست وظيفة سياسية محددة للخليفة كحاكم أعلى للدولة، (موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر).
يوضح الباحث نزيه الأيوبي مستنداً على اتفاق الفقهاء، أن القرآن الكريم لم ينص على صورة محددة لنظام الدولة والحكم، كما أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يعين خليفة يتولى أمور الناس من بعده، مع أنه كان يدرك قرب انتقاله للرفيق الأعلى؛ كذلك فآلية الوصول لمركز قيادة الدولة اختلفت بين الخلفاء الراشدين، مما يعني أن الإسلام لم يضع أحكاماً محددة ومفصلة لنظام الحكم، باعتباره مجالاً دنيوياً خاضعًا لاجتهادات البشر، على خلاف ما فعل بالمجال الأخلاقي والاجتماعي.
المعنى الاصطلاحي السياسي لمفردة الخلافة ظهر لاحقاً وليس في زمن النبوة ولا الخلفاء الراشدين. في البداية ظهرت أدبيات سياسية كنصائح للحكام (مثل ابن المقفع ت 142هـ)؛ ولم تنشأ النظريات السياسية في الفكر الإسلامي إلا بعد ضعف مؤسسة الدولة معتمدة على الاجتهاد والابتكار والاستعارة بالاستناد على القرآن والسنة والتقاليد العربية والتراث السياسي للشعوب غير العربية... وتمت صياغة المفهوم السياسي للخلافة في القرن الخامس الهجري (الماوردي ت 450 هـ) وما بعده (الغزالي ت 505 هـ، بن جماعة ت 732 هـ).
هذا المفهوم لم يعد يستخدم، حتى ظهرت نظرية جديدة للخلافة تبنتها أغلب حركات الإسلام السياسي الحالية، وكانت في البداية كرد فعل تقليدي على التحول العلماني في تركيا، وعدوانية بعض القوى الغربية، ونكسة الإيديولوجيات العلمانية، ونتائج الأزمة الفلسطينية.. حسب الباحث حميد عنايات الذي يرى أن زوال آخر الخلافات (الخلافة العثمانية) سنة 1922م شكل صدمة فأصبح إعادتها هو أصل الفكرة الحالية بأن الإسلام دين ودولة وليس دينًا ودنيا. المفارقة أن الدولة العثمانية كانت سلطنة ولم تتحول إلى خلافة إلا في القرن الثامن عشر الميلادي مع بداية ضعفها.
الإسلام دين ودنيا التي يتفق حولها المسلمون تعني أن نظام القيم الاجتماعية والأخلاقية يجب أن يتبع الدين الإسلامي، أما إضافة الدال الثالثة (أي الدولة) -حسب تعبير نزيه الأيوبي- فهو ابتكار حديث، نجده غالباً في أطروحات الإخوان المسلمين. لكن إذا كان مصطلح «الخلافة» كدولة ابتكاراً حديثاً فلماذا يعتبره البعض جزءاً أصيلاً من الدين؟ إنها عبارة خلاصية تكشف، كما يقول الباحث فهمي جدعان: «عن حالة من نفاد الصبر خطيرة، أكثر مما تكشف عن الاستجابة للمتطلبات الحقيقية للوحي الإسلامي نفسه. «فينبغي التمييز - حسب جدعان - بين عبارتي أنه «لا خلاص إلا بالإسلام» و»لا خلاص إلا بالدولة الإسلامية»، مقترحاً التفريق بين فكرة الحل الإسلامي وفكرة الدولة الإسلامية، كأمر جوهري لفهم تيار «الإسلام السياسي» فهماً دقيقًا.
أي أنه ينبغي التمييز بين عبارتي: دولة مسلمة وخلافة إسلامية، فالأولى تستند أنظمتها على التشريعات الإسلامية، أي اجتهاد بشري في إطار التزام بقيم الإسلام ومبادئه العامة في نظام الحكم كالعدالة والشورى والتزام الجماعة؛ بينما الثانية تضفي على كيانها طابع القداسة الدينية الذي لا اجتهاد فيه. تذكر موسوعة السياسة (المشار إليها) أنه حدث في عصور إسلامية متوسطة ومتأخرة أن بعض الحكام وبعض الفقهاء صرف مدلول الخلافة عن المدلول الذي نشأت له، كخلافة عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- في سلطته السياسية وسلطانه الدنيوي، لأن سلطانه الديني ليس موضعاً للاستخلاف، فجعلوها خلافة عنه في سلطانه الديني، كي يضفوا على سلطتهم الطبيعة الدينية لتجعلهم فوق المحاسبة وتعطي تصرفاتهم مظهر التقديس.
نخلص مما سبق أن المفهوم السياسي الأول للخلافة ظهر بعد تدهور مؤسسة الدولة بالقرن الخامس الهجري، والمفهوم الحالي ظهر بعد زوال الخلافة العثمانية بالقرن الرابع عشر الهجري وصلته بالأول تنحصر بالعلاقة اللفظية، مما يدعم فكرة أن ظهور مصطلح «الخلافة» كمفهوم سياسي كان رد فعل على حالة مضطربة واستغلالاً لغوياً مكيافيلياً، وليس مصطلحاً أصيلاً في التشريع الإسلامي، أي أنه مصطلح دنيوي خاضع للاجتهاد والتغيير.