د. محمد بن يحيى الفال
هناك مقولة عربية غاية في الحكمة والمنطق والتفكير العقلاني، تقول المقولة «حدث العاقل بما لا يصدق، فإن صدق فلا عقل له». ولعل الحقيقة لا تُجافى مطلقاً بإسقاط هذه المقولة على التُرهات المثيرة للضحك والشفقة والتي تحاول زوراً وبهتاناً تخمين بأن الصفحات الثمانية والعشرين من تقرير لجنة الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر 2001، تشير إلى ضلوع مسؤولين من المملكة في تمويل الإرهابيين الذين نفذوا جريمة الهجوم في ذلك اليوم الحزين من أيام الخريف الأمريكي قبل ثلاث عشرة سنة خلت.
كذب هذه الإدعاءات والافتراءات إن صحت تنطلق وتستند على أربع من الحقائق المحورية، أول هذه الحقائق يتعلق بأن تقرير لجنة التحقيق بالهجمات الإرهابية والتي تم تشكليها من قبل الرئيس جورج بوش الابن والكونجرس الأمريكي والمعروفة كذلك بلجنة كين وهاميلتون Hamilton) / Kean) وهما السياسيان الأمريكيان اللذان ترأسا اللجنة، الأول من الحزب الجمهوري وكان حاكماً سابقاً لولاية نيوجريسي، والثاني من الحزب الديمقراطي ومثل الدائرة التاسعة لولاية أنديانا في مجلس النواب الأمريكي، وعقدت أول جلساتها بعد الهجمات بـ 442 يوماً من حدوثها واستمرت في حالة انعقاد من 27 نوفمبر 2002 وحتى 22 يوليو 2004، واستمعت لشهادات 1200 شخص من 10 دول، ولم تجد اللجنة في تقريرها النهائي أي علاقة أو رابط بين الهجمات والمملكة أو مسؤوليها. الحقيقة الثانية المفندة لهذه الإدعاءات المثيرة للشفقة هو أن تقرير اللجنة يتهم تنظيم القاعدة بتنفيذ الهجمات وهو أمر أكده رئيس التنظيم أسامة بن لادن قبل شروع اللجنة في أعمالها وبعد أيام عدة من الهجمات تبعتها الحرب التي شنتها أمريكا على أفغانستان بعد رفض الأخيرة تسليم بن لادن. فكيف للمملكة أن تدعم تنظيماً إرهابياً كالقاعدة كانت هي دوماً ومنذ بدايات تأسيسه الهدف الأول لجرائمه، وسجل هذه الجرائم معروف للقاصي والداني وذهب العشرات ضحية جرائمه العديدة التي اقترفها على أرض المملكة من مواطنين سعوديين ومقيمين أجانب من مختلف الجنسيات بما فيهم الأمريكيون. الحقيقة الثالثة والتي تطرقت لها اللجنة هو الربط الموثق والذي لا جدال فيه وأثبتته التحقيقات وهو فيما يخص دور إيران في الهجمات، حيث توصلت اللجنة بأن عدداً من الإرهابيين الذين نفذوا الهجمات مروا عن طريق إيران والتي سهلت عبورهم ولم تختم جوازات سفرهم. الحقيقة الرابعة التي تدحض بلا جدال ربط المملكة أو أي من مسؤوليها بأحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية تتعلق بأن عدداً من الجهات الأمريكية، إضافة لما توصلت له لجنة التحقيقات الرسمية قد فندت وبشكل قاطع ربط الهجمات بالمملكة، منها محاكم أصدرت أحكاماً بهذا الخصوص، ومسؤولو استخبارات وساسة أمريكيون رفيعو المستوى. الحقيقة الرابعة والتي تعتبر الفيصل في تفنيد أي إدعاءات مغرضة تربط المملكة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر تنطلق من أن الحكومة الأمريكية وبعد الهجمات استطاعت وعلى فترات زمنية متقاربة من القبض على العديد من روز تنظيم القاعدة الإرهابي والذين حصلت منهم على كنز من المعلومات عن التنظيم وعن الهجمات ومع ذلك لم تغير موقفها من ما توصلت له لجنة التحقيق في الهجمات لا تلميحاً ولا تصريحاً. وقائمة الشخصيات التي تم القبض عليها بعد الهجمات الإرهابية والمرتبطة بشكل وثيق ومباشر بالهجمات تضم اليمني رمزي بن الشيبة عضو ومنسق خلية هامبورج التي ضمت قائد الهجمات محمد عطا ومروان الشيحي وزياد الجراح، واعتقل ابن الشيبة في كراتشي في الحادي عشر من سبتمبر 2002، في الذكرى الأولى للهجمات الإرهابية، الباكستاني خالد شيخ محمد الذي يُشار إليه بأنه العقل المدبر للهجمات واعترف شخصياً بمسؤوليته عنها من ألفها إلى يائها واعتقل في باكستان في مارس 2003، الفلسطيني زين العابدين محمد حسين المعروف بأبو زبيدة والذي اعتقل في مارس 2002، السوري مصطفى عبدالقادر ست مريم المعروف بأبو مصعب السوري واعتقل في باكستان في نوفمبر 2005.
وبعد سرد فيض من قيض من الأسباب التي تفند جملةً وتفصيلاً أي ربط بين الهجمات وبين المملكة في ما قد تضمنته الصفحات الثمانية والعشرين المحجوبة (Classified)، وهو الأمر الذي أكده البرنامج الإخباري الأمريكي الشهير «ستين دقيقة» والذي بثته قناة سي.بي.اس التلفزيونية الأمريكية مؤخراً، يبقى تساؤل مُلح حول تزامن الإعلان عن عزم الحكومة الأمريكية على إلغاء السرية عن الصفحات الثمانية والعشرين من تقرير لجنة هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وذلك خلال شهر يوليو القادم، وبين تمرير مجلس الشيوخ الأمريكي لقانون رفع الحصانة عن الدول لمقاضاتها أمام المحكم الأمريكية، وهو قانون لا يزال يحتاج إلى موافقة كل من مجلس النواب الأمريكي والبيت الأبيض ليصبح ساري المفعول. والجدير ذكره هنا أن الرئيس باراك أوباما كان قد وعد عائلات ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر من رفع السرية عن الصفحات الثمانية والعشرين المخفية، وذلك خلال حملته الانتخابية الرئاسية عام 2008. ويربط المحللون الإعلاميون بين هذا القانون المثير للجدل وبين تسريبات صحفية بأن الانتحاري العشرين الفرنسي من أصول مغربية المدعو زكريا موساوي والذي تم القبض عليه في شهر أغسطس من العام 2001 أي قبل ما يقارب من شهر من تنفيذ الهجمات وبتهم تتعلق بانتهاك قوانين الإقامة والهجرة قد أدلى بمعلومات يؤمل منها مساعدة ذوي ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية في رفعهم لقضاياهم أمام المحاكم الأمريكية في حالة تمرير القانون من قبل مجلس النواب والبيت الأبيض. العجيب أن موساوي والذي كانت تفاصيل محاكمته مليئة بالمتناقضات وبدت كسيرك لما حفلت به من أحداث عديدة بداية من رفضه للمحامين الذين تولوا مهمة الدفاع عنه، مروراً باعترافه بكل التهم الموجه إليه ومن ثم إنكاره لها، وبإدعائه كذلك بمعرفته بالإرهابي البريطاني ريتشارد ريد الملقب بالمفُجر ذو الحذاء (Shoe›s Bomber) الذي حاول تفجير طائرة ركاب أمريكية فوق المحيط الأطلسي في رحلتها من باريس إلى ميامي بقنبلة زرعها في حذائه وتمت السيطرة عليه قبل أن يتمكن من تفجيرها، ليتضح كذب إدعائه لاحقاً جملة وتفصيلاً، وانتهاءً بإدعائه الجنون. فكيف لشخص بهذا السجل المثير للشفقة من التناقضات أن يُحتد بأقواله وهو على ما هو عليه من تخبط شديد الوضوح!؟ وهل معلوماته التي أدلى بها للمحققين مهما بلغت أهميتها ستكون بحجم المعلومات الهائلة التي حصل عليها المحقون الأمريكيون من كبار أعضاء تنظيم القاعدة المقبوض عليهم!؟
إجمالاً، فالمؤشرات والتسريبات المتعلقة بمضمون الصفحات المخفية من تقرير لجنة التحقيقات تتعلق بربط تمويل الهجمات بشخصيات سعودية، وهو أمر يُفند نفسه بنفسه وعلى مستويين أساسين، وهما أولاً بأنه لو افترضنا جدلاً بأنه قد تم تقديم مساعدات مالية للخاطفين، فهو أمر لا يرقى في أي محكمة أمريكية عن كونه قرائن أو أدلة ظرفية تحاول ربط سلسلة من الأحداث مع بعضها وبدون وجود علاقة مباشرة بينهم (Circumstantial Evidences)، بمعنى أنه من الممكن أنه قد تم تقديم مساعدة لأشخاص بدون معرفة بنواياهم الإجرامية وبمبالغ رمزية أو تيسير خدمات لهم بطريقة لا تشكل تهديداً أمنياً على الإطلاق، وهو أمر تغير جذرياً في الشخصية السعودية وبالنظام المصرفي وطرق جمع التبرعات في المملكة، وتعاونت المملكة وبكونها متضررة مع الجهات الأمريكية بكل شفافية في هذا الموضوع ونالت إشادة بخصوصه من جهات أمريكية عديدة كوزارة الخزانة الأمريكية. ثانياً، فالإرهابيون الذي أقدموا على جريمتهم النكراء بتفجير أبراج مركز التجارة الدولي بنيويورك استخدموا في جريمتهم الطائرات المدنية الأمريكية وركابها الأبرياء لتنفيذ جريمتهم الشيطانية، بمعني أن تنفيذ جريمتهم لم يكن يحتاج لتمويل ضخم وهو الأمر الذي تفاخر به زعيم تنظيم القاعدة بعد الهجمات وبأن التنظيم مولها بحفنة من الدولارات.
جريمة الحادي عشر من سبتمبر وباعتراف الحكومة الأمريكية حدثت بسبب الفشل الذريع في تمرير المعلومات بين الجهات الأمنية الأمريكية والتي كان بعضها على دراية بخطط تنظيم القاعدة بشن هجمات إرهابية ضد المصالح الأمريكية، وذلك باستخدام طائرات مدنية. ولتلافي هذا الخطأ المميت مستقبلاً أنشأت حكومة الولايات المتحدة وزارة الأمن الوطني (U.S Department of Homeland Security)، وهي الوزارة التي أنشأها الرئيس جورج بوش الابن وأنيط بها شأن الأمن الداخلي للولايات المتحدة والتنسيق وتبادل المعلومات بين كافة الهيئات والوكالات الأمنية الأمريكية بهذا الخصوص.
أخيراً، وفي انتظار معرفة ما تحتويه الصفحات المحجوبة من تقرير لجنة الهجمات في شهر يوليو القادم، أي بعد أقل من شهرين من الآن، تبقى حقيقتان حول هذا الموضوع إحداهما ثابتة والأخرى متغيرة، فالحقيقة الثابتة هي أن العلاقات السعودية الأمريكية علاقات مهمة ومحورية لكلا البلدين وتستند لأكثر من سبعة عقود من التعاون المثمر بينهما في كافة المجالات، والحقيقة المتغيرة والزائلة هي المحاولات التي نراها بين الفينة والأخرى من قبل الكارهين لهذه العلاقة والساعين لتقويضها بكل السبل وبكم هائل من الأكاذيب والتُرهات الزائفة، ولمن حصل على فرصة الدراسة والعيش في أمريكا من غير المستبعد أنه قد سمع بالمصطلح الأمريكي «ملاحقي سيارات الإسعاف»، «Ambulance chasers» والذي يعني المحامين الذين يلاحقون سيارات الإسعاف وهي في طريقها للمستشفى حاملة المصاب للعلاج، وذلك من أجل إقناع المصاب بتولي مهمة الدفاع عنه نتيجة الحادث الذي تعرض له وذلك للحصول على نسبة معتبرة من التعويضات التي سيحصل عليها في حالة تعويضه. وبالمنطق نفسه فإن الضجة الإعلامية الحالية التي تحاول ربط جريمة الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية بالتمويل لا بالحقائق الواضحة الجلية التي توصلت لها لجنة التحقيق والمعلومات التي حصلت عليها الحكومة الأمريكية من عتاة تنظيم القاعدة بعد صدور التقرير، كل هذا يؤكد بأن القائمين على هذا الأمر والهادف إلى ربط الهجمات بالتمويل ليسوا سوى متاجرين بآلام ومآسي أهالي ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية وينطبق عليهم تماماً مصطلح المستفيدين من مآسي الآخرين «Grievance Chasers»!!!