قاسم حول
ستون كيلومتراً، عن مراكش، وفي قرية «توفلحت» الجبلية ساحرة الجمال، يعيش فريق تصوير للمنتج «حميد باسكيت - جماعة السينما المغربية» لإخراج وتصوير فيلم «حياة بريئة» عن زواج القاصرات. تأتي هذه التجربة السينمائية الإِنسانية بعد تجربة الفيلم اليمني «أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة» كتابة وإخراج المخرجة اليمنية «خديجة السلامي» أيضاً عن زواج القاصرات في اليمن، والذي أثار اهتمام النقاد والصحافة العربية وغير العربية. إِذْ تحدثت عن إرغام طفلة في سن العاشرة على الزواج من شخص يكبرها بعشرين عاماً، والفيلم مستقى من قصة حقيقية، هذا الفيلم الذي أثار الإعجاب، يأتي اليوم فيلم آخر ولكن من المغرب يتحدث عن زواج القاصرات ويحمل عنوان «حياة بريئة» للمخرج «مراد الخودي» والفيلم من تأليفه أيضاً.
حضرنا تجربة التصوير والتحضير لمشاهد كبيرة أنا والمخرج السينمائي كاظم الصبر، لكن نعيش التجربة مع فريق التصوير. وقد واكبت تجربة التصوير المنتجة الإيطالية ومديرة الإنتاج (Laura Cafiero) عشنا في أجواء قروية جبيلة واكتشفنا توفير فرص الإنتاج وسط الغابات وفي أعالي الجبال ومواقع التصوير الملائمة لمشاهد الفيلم «حياة بريئة».
يتحدث الفيلم عن طبيبة اسمها «هند» التي تلتحق بعملها الجديد في مستوصف بقرية على سفح جبل، حيث تنخرط بسرعة في العمل وتتعايش مع أهل القرية، لكن سرعان ما يثير حفيظتها وجود مجموعة من القاصرات متزوجات، وبعضهن في فترة الحمل، وأخريات أمهات وهن لم يبلغن سن الرشد! تكتشف ذلك من خلال المراجعات لعيادتها وبسبب طبيعة عملها في الطبابة، يثير هذا الموضوع اهتمام الطبيبة «هند» وخلال بحثها عن شؤون النساء في القرية الجبلية تتعرف على طفلة اسمها «زهرة» في سن العاشرة مقبلة على زواج وهي لما تزل قاصرة، فتقرر الهروب، ولم تجد مكانا تلجأ إليه سوى بيت الطبيبة «هند». تختفي «زهرة» عن الأنظار وتذهب تكهنات القرية بأنها قد اختفت في مكان ما من الغابة وقد تكون قتلت أو ماتت، ويتم البحث عنها لكن الطبيبة تصارحهم بأن «زهرة» موجودة عندها في البيت، فيتجمع أهل القرية لإخراج الطفلة «زهرة» من بيت الطبيبة «هند»، وحين يدخلون الدار لم يجدوا الطفلة، إِذْ نجح شاب في تهريبها من بيت الطبيبة، والمكوث في بيت خربة من الغابة.
قصة هذا الشاب تتمثل في أنه مر بتجربة مماثلة إِذْ تزوج من فتاة قاصر، وماتت في ليلة الدخلة بسبب عنف الممارسة، وأصيب بصدمة تركت أثراً في حياته ما دعاه ذلك لأن يحاول إنقاذ «زهرة» جراء ما حدث لزوجته ليلة زواجه!
كانت القرية ككل عام تحتفل بزواج جماعي لعدد من الفتيات اللواتي لم يبلغن سن الزواج أو سن الرشد وهن لا زلن يلعبن بالدمى، حيث يقام في القرية احتفال كبير تقدم فيه الأهازيج والرقصات الفلكلورية، يقيم هذا الاحتفال شيخ ثري هو «الحاج عمر» الذي يُعدُّ تمويل حفلات الزواج كنوع من التكريم لأهل القرية. وكنوع من الثواب!
«هند» تتعهد بتسليم الطفلة «زهرة» مقابل التنازل عن تزويجها قسراً، وهي التي لم تبلغ سن الزواج، وكذا التنازل عن حفلات تزويج الفتيات الصَّغيرات في حفل عرس جماعي، تجد فيه «هند» حالة من الرعب والخوف يساورها ويساور فتيات لا زلن يلعبن بالدمى!
يتطور العمل الدرامي ويتصاعد الصراع بين اتجاهين، الأول يتمثل بالطبيبة «هند» ومن يناصرها، والاتجاه الثاني يتمثل بالحاج عمر ومعه أهل القرية الذين يضعون أسبابا غير إِنسانية وغير حضارية لضرورة تزويج القاصرات قبل أوان النضج العقلي والجسدي! تحت شعار المحافظة عليهن قبل ما يساورهن حين النضج الجسدي. هكذا يسود الاعتقاد لدى أهل القرية. والفيلم الذي كتبه المخرج نفسه، يكشف بطريقة سينمائية لمستها من خلال طبيعة المشاهد هذه الظاهرة وينبه بصدد مخاطرها الاجتماعية والإِنسانية.
«مراد الخودي» كاتب ومخرج هذا الفيلم الذي تموله «القناة الثانية المغربية»، هو مخرج جريء ويتوجه للموضوعات الاجتماعية المغربية بنفس متقدم، وكان يعمل في المسرح وقدم مسلسلات تلفزيونية ناجحة، وهو فوق هذا رسام ومتابع للثقافة الأدبية والفنية في بلاده والعالم العربي والعالم، لذا يتوقع لعمله هذا «حياة بريئة» أن يشكل انتباهة واعية في مساره الإبداعي ويتوقع أن يجد جمهور المغرب ومشاهدي القناة الثانية المغربية في هذه التجربة خروجا عن المألوف والسائد والتقليدي.
يدرك «مراد الخودي» في حديثي معه، أن تجربته هذه هي تجربة، وإن كانت تلفزيونية، أو مما يطلق عليه «السهرة التلفزيونية» ولكنه ينحو فيها منحى سينمائيا، كي يتمكن من المشاركة فيه بالمهرجانات السينمائية والتلفزيونية.. ويقول انه يعمل في ظروف نظامية ومع مبدعين من المصورين ووجوه من نجوم السينما المغربية، مثل الممثلة الكبيرة «راوية» والممثلة «سعيدة باعدي» والممثل المسرحي والسينمائي «جمال الدين الدخيسي»، والممثل «حميد باسكيت» والممثلة «حفيظة باعدي» و»سعيد الهليل» ومعهم الطفلة «ياسمين العلوي» التي تلعب دور «زهرة».
يقول المنتج «حميد باسكيت» «إن فيلم حياة بريئة شريط «تلفزي» للقناة الثانية المغربية، ولكنه سوف يشارك في المهرجانات المتخصصة في مسابقات الأفلام التلفزيونية، وإننا نراهن على هذا الفيلم من خلال الأسلوب السينمائي في السرد، وطريقة التصوير عالية الجودة بمشاركة نخبة كبيرة من نجوم المسرح والسينما والتلفزة المغربية»، ويضيف المنتج الذي يلعب أحد أدوار الفيلم «بأن موضوع الفيلم، أعني زواج القاصرات، لم يعد ظاهرة في المجتمع المغربي، لكنه لا يزال يمارس في بعض القرى النائية في بوادي وجبال المغرب. ومن الضروري أن يَتمَّ كشف هذه الظاهرة ومعالجتها كونها لا تتماشى مع روح العصر وتتقاطع مع الجانب الإِنساني!»
عشنا أجواء الأعراس التي تعرض تقاليد القرية الجبلية في طقوس الأعراس، حيث وفرت الشركة المنتجة «جماعة السينما المغربية» أمام المخرج «مراد الخودي» كل متطلبات العمل النظامي لكي يستطيع أن يحقق الجانب الإبداعي. وجدنا الكل في أجواء أليفة منسجمة، وهذا ما ينعكس إيجاباً على العمل بعكس كثير من الأعمال العربية التي تسودها السرعة من أجل ضغط العملية الإنتاجية التي كثيراً ما تكون على حساب العمل ومستواه الفكري والفني الجمالي.
دار بيني وبين الممثلين المحترفين في فترات استراحات العمل أو بعد التصوير وقضاء سهرات ثقافية في مقر إقامتهم، حوار بصدد ما نطلق عليه «الممثل الجاهز» وكان حواراً معمقاً، حيث طرحت عليهم السؤال عن علاقة المخرج بالممثل الجاهز. أي الممثل المحترف!
يسود الاعتقاد في الأوساط السينمائية وبشكل خاص في الأوساط التلفزيونية، بأن الممثل الجاهز يتقمص الشخصية بحكم حرفيته بسهولة، وهذا ما يوفر على المخرج العمل مع الممثل والاهتمام بتصميم حركة الكاميرا، ومراقبة توزيع الإضاءة مع مدير التصوير والتعامل في الإيعاز مع مهندس الصوت والمصور في بدء اللقطة والانتهاء منها. وهذا الأمر يكاد يسود كل الأعمال الدرامية العربية السينمائية والتلفزيونية. لو نظرنا ملياً وبروح نقدية واعية إلى المشاهد التي تبث من التلفزة العربية خاصة، وحتى في السينما العربية، وحاولنا مقارنتها بمشاهد للمسلسلات والأعمال الدرامية السينمائية في أوروبا أو المسلسلات التلفزيونية الأمريكية، لاكتشفنا نمطية الأداء ونمطية الشخصيات في الأعمال العربية، حيث يكاد يظهر الممثل العربي مشابها لكل أدواره مع تغيير في الملابس والمظهر الخارجي للشخصية. هناك تفاصيل مهمة في بناء الشخصية نجدها في مسلسلات الغرب تضفي على الشخصية الخصوصية ومن ثم الإقناع. هذه التفاصيل التي تظهر بها الشخصية، هي ليست وحدها من قدرة الممثل الجاهز وحرفيته، ولكن هناك مخرج في الغرب، يعطي من عنده إضافات تغني وتثري الشخصية من خلال جملة من اللقاءات بينه وبين الممثلين في تفسير النص وتجسيد إيقاع النص قبل البدء بالتصوير، وهذا ما يثري الشخصية المتقمصة مهما بلغت درجة الاحتراف عند الممثل. المخرج في الغرب لا يتعامل مع النص بالسهولة التي يعمل بها المخرج في الشرق، وطبعا هناك اعتبارات إنتاجية وهناك ميزانيات كبيرة توضع أمام تصرف الإنتاج وبالتالي الإخراج، فيما يعمل المنتج والمخرج في الشرق وبشكل خاص في الشرق العربي بظروف إنتاجية صعبة وبميزانيات فقيرة، تحتم عليه الإسراع في العمل وتقليص مدة تنفيذه.
إن التعامل مع الممثل إخراجيا، ومن خلال المخرج الواعي والحريص على عمله، يساعد الممثل على الخروج من النمطية الأدائية، ويعطيه فرصة التألق. ولا شك، فإنَّ ما توفره التلفزة الغربية والأمريكية للمسلسلات يفوق بما لا يقاس، فقر الإنتاج بالنسبة للتلفزة العربية. وكثيراً ما يرتبط الممثل العربي الجاهز بأكثر من مسلسل في آن واحد، بسبب شح الأجور التي يتقاضاها الممثل وحتى الفريق التقني! وهذا ما يحول دون تقمصه الشخصية وإعطائها ما تستحق من الملامح والتفاصيل.
يبذل المخرج الشاب «مراد الخودي» جهداً حنونا وحريصا لتحقيق أفضل ما يستطيع من أجل تحقيق تجربة سينمائية تلفزيونية تتسم بالنجاح، وهو كمن يردد ما جاء في أسطورة «سيزيف» آه يا روحي العظيمة لا تطمحي إلى الخلود، ولكن، استنفذي حدود الممكن!
حياة بريئة عمل «درامي» سينمائي اللغة، تلفزيوني التلقي، يتناول مشكلة حقيقية في قرى المغرب، ومن الضروري الانتباه لها، والوقوف في عدم تحولها إلى ظاهرة قروية، نجح المخرج من خلال مواكبتي لتصوير الكثير من المشاهد في تجسيد المشكلة وفي نفس الوقت يتحقق سينمائيا وتلفزيونيا تقديم المعرفة في مشاهدة عادات وتقاليد الزواج حتى وإن كانت في مضمونها تتقاطع مع الطبيعة الإِنسانية والاجتماعية. هي خطوة سينمائية جريئة من المخرج ومن المنتج، وبالتالي من قبل «القناة المغربية الثانية».
- المغرب (قرية توفلحت)