لقد شرع الله تعالى لعباده شريعة تعبدا له سبحانه، ودخولا للعبد في مقام العبودية، وترك داعية نفسه لداعية ربه، وتحقيقا لمصلحة العبد في الدنيا ثم نجاته وفوزه في الآخرة، وهذه المعاني تتحقق عند المؤمنين بالله تعالى، وعليه يظهر قول العلماء إن الشرع جاء لتحقيق المصلحة وتكميلها، ودرء المفسدة وتقليلها، وأن ما كانت المصلحة حقيقية فالشرع لا يمكن أن يعارضها ولم نعلم -كما قال العلماء- بأن الشرع في مسألة خالف مصلحة محققة للعباد، وتكفل الله تعالى لمن أقام شرعه أن يحييه حياة سعيدة في الدنيا والآخرة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة:66).
وهذه المصلحة التي تحققها الشريعة ليست فقط الدنيوية -كما يظنه بعض أصحاب الخطاب الشرعي الذين يسمون بالتنويريين، والعلماني ؛ بل المصلحة التي جاء الشرع لتحقيقها هي مصلحة العبد الدينية أولاً، والأخروية ثانياً ومصلحة دنياه ثالثاً، فالعبد تتحقق عبوديته بدخوله تحت شرع الله، ولا نغفل المصلحة الدنيوية لأن عناية الخلق تنصرف لها، فالعبد المطبق للشرع بريء من الحيرة والاضطراب النفسي، ومصلحته الدنيوية قائمة على أساس من السير في طريق مستقيم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فلا علمانية ولا ليبرالية ولا ديمقراطية ولا شيوعية ولا اشتراكية ولا حزبية، ولا... بل شرع الله تعالى حَكَمٌ على العباد والبلاد.
ومن شرع الله تعالى تطبيق حدوده وزواجره وعقوباته التي وضعها لمن تعدى حدود الله تعالى- رحمة بهم، وأمانا لهم، وأمنا لهم من المرضى نفوسهم من أصحاب الجرائم والانحراف، وهذا واضح لا يحتاج لكثير كلام، فمن يطبق شرع الله تعالى كان الأقل جريمة مع ما فيه من خلل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} .
والحدود في الشريعة تطلق ويراد بها النواهي التي نهى عنها كالربا والقتل، ويراد بها العقوبات التي جعلها الشرع على مرتكب المعاصي والجرائم كالقتل قصاصا للقاتل، وقطع اليد للسارق، والرجم للزاني العاهر الفاجر، وقد يراد به الأوامر والنواهي وشرع الله عموما.
طبيعة الحدود في الشريعة:
الحدود ليست عقوبة في نفسها فقط، ولا انتقاماً من العبد ولا تشفيا منه، بل إصلاح وتهذيب، وهي زواجر وجوابر وقصاص واستيفاء حقوق، بعكس غير الشريعة من القوانين الأرضية الوضعية فهي زواجر فقط، وكما جاء في الحديث: «فمن أصاب من ذلك -أي الحدود- فأقيم عليه الحد فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه»، فالحدود جوابر وإصلاح وتهذيب وهي زجر وعقوبة، كما قال تعالى:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2 سورة النور)، كما أنه شرعت للقصاص واستيفاء الحق لصاحبه وتطييبا لقلب ونفس المعتدى عليه، فهي قصاص نأخذ من الجاني بقدر جنايته فالنفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والسن بالسن والقصاص عادل وجزاء مكافئ تماماً للجريمة فليست نفس الجاني ولا عينه بأعز وأغلى من نفس وعين المجني عليه، وكذلك الحدود شرعت تعويضا للمجني عليه كالدية، في جرائم القصاص، وتغريم أثمان المتلفات، وهذا في ذاته عدل لأن التعويض المالي للمعتدى عليه حق له إذا فقد نفسه فهو لورثته وإذا فقد عضواً منه، وكذلك إذا فقد شيئاً من ممتلكاته. وأما السجن للمجرم فهو لا يعوض المجني عليه شيئاً من ذلك، فماذا يستفيد المجني عليه من سجن الجاني سنة، أو سنتين فهذا لا يشفي صدره، ولا يعوضه شيئاً عن مظلمته. والحدود شرعت لحفظ الأمن كما قال تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} والناس كركاب سفينة -كما شبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم- ببحر الفتنة والدمار وبحر الخلاف والغاب لأن القوي حتما لن يقنع إلا بأكل الضعيف فكان التشبيه بالسفينة لأجل ذلك ولا يخرج علينا متفلسف فيقول يمكن للبشرية أن تعيش بسلام بلا قوانين، فنجيب بأن هذا مخالف للعقل والنقل وجمهور العقلاء يعترفون بهذا بل نقل عن منظري القوانين الوضعية في مسألة فصل السلطات أنه قال كل صاحب سلطة ينزع لاستغلالها لمصلحة نفسه ولذا نادت أوروبا بالفصل بين السلطات والإسلام سبقهم بقرون طويلة.
فالناس كركاب في سفينة لابد من الأخذ على يد المخرب أمانا لهم من الغرق في الحروب والدمار، فالحرب العالمية أهلكت ملايين ومبالغ هائلة، فلابد من الأخذ على يد الظالم بما يصلحه ويعينه على نفع نفسه ونفع الآخرين وعلى الأقل أن يكف الناس من شره، فإن الإسلام جعل مجرد كف الناس من شرك صدقة تتصدق بها كل يوم عن نفسك وقربى إلى الله تعالى.
فضيلة إقامة الحد:
إقامة الحد أمن وأمان كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وهو خير يصيب الأرض وأهلها قال النبي صلى الله عليه وسلم :»حد يقام في الأرض خير لهم من أن يمطروا أربعين صباحا» ويشهد له قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة:66) وقال تعالى عن نوح {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (10، 12).
وهذا هود عليه السلام يقول لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود:52)، وقال ابن حبان مبوبا لهذا الحديث السابق: «ذكر الأمر بإقامة الحدود في البلاد, إذ إقامة الحد في بلدٍ يكون أعم نفعًا من أضعافه القطر إذا عمته»، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (الأعراف:96).
وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} قال: في إقامة الحد، يقام ولا يعطل.
والذي يترك الحد يضل ويشقى كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (123-124 سورة طه)، وإن أول وظيفة للشيطان هو تغيير الحكم بالشرع وقلب الحلال لحرام وقلب الحرام لحلال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: «إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتم الشياطين فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأحلت لهم ما حرمت عليهم»، فتحويل الحرام لحلال من فعل الشياطين فالحكم بشرع الله الذي هو واجب صار عند هؤلاء أتباع الشياطين تزمتا ورجعية وتخلفا وانتهاكا لحقوق الإنسان، وصار ستر المرأة عنصرية وعنفا ودكتاتورية، وصار تعدد الزوجات عنصرية واحتقارا للمرأة، وقطع يد السارق عنفا ورجعية للقرون الوسطى، وكذا الرجم فانطبق عليهم ما فعلته الشياطين بالبشر مع شرع الله تعالى.
وقال تعالى عمن لم يحكم بالشرع:
{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44 سورة المائدة) ووصفهم بالظلم:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45سورة المائدة) ووصفهم بالفسق: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (47 سورة المائدة).
وعاتب الجاهليين لإعراضهم عن حكم الله تعالى {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
ولذلك قال العلماء: «لا يخاف العقوبة إلا المجرم»، فمن يخاف الحدود ويحاربها ويمنعها فهو إما جاهل وإما من النفوس المريضة التي تألف المعصية وتتصور ألا يمكنها تركها كمن يحارب هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من أصحاب الحدود غالبا أو له موقف سيئ مع الهيئة.
ومع اشتداد الحملات المغرضة ضد المملكة العربية السعودية لتطبيقها حدا من حدود الله تعالى إنما هو غرض خبيث ينم على بغض لشرع الله تعالى، وقد بان هذا جليا.
ولكي يعلم القاصي والداني والحاقد والموافق والصديق والعدو نذكر مراحل المحاكمة الجنائية بالمملكة العربية السعودية فهي تمر بالمراحل الآتية:
1 - هيئة الادعاء والتحقيق وهي النيابة العامة وتتولى التحقيق مع المتهم، والمحققون حاصلون على شهادات من الكليات الشرعية أو ما يعادلها من الكليات المماثلة شريطة حصولهم على دورة لمدة سنة بالمعهد العالي للقضاء.
2 - تحال للمحكمة الجزائية (الجنائية) الابتدائية بعد هيئة التحقيق والادعاء العام، وينظر في القضية ثلاثة من القضاة إذا كانت تتعلق بالقصاص أو الرجم أو القطع أو القتل حدا أو تعزيرا، ولابد أن يدين المتهم اثنان من ثلاثة.
3 - بعد ذلك ترفع القضية لمحكمة الاستئناف وينظر فيها خمسة قضاة بدرجة رئيس محكمة استئناف ولا بد أن يدينه أربعة من خمسة.
4 - ثم ترفع للمحكمة العليا وهي في هذه الحالة محكمة موضوع وليست محكمة تدقيق (يعني تنظر للقضية كأنها قضية جديدة تماما وليست مجرد تدقيق ومراجعة مع النظر لما سبق من أحكام)، ولا بد أن يدينه أربعة من خمسة.
5 - ثم ترفع للمقام السامي الملك ليوقع عليها، وهو في الغالب لا يوقع إلا بعد استشارة المستشارين من العلماء في الديوان الملكي وهم من كبار العلماء، مع مراجعة المستشارين النظاميين الذين يدققون في سير القضية من الناحية النظامية.
فالخلاصة أن القضية مرت على ثلاثة عشر قاضيا وقبله مرت على المحققين في هيئة التحقيق والادعاء العام (النيابة العامة) وبعد الثلاثة عشر قاضيا تمر على مستشاري الملك من كبار العلماء، هذا لا أعلم بلدا في الدنيا يسير بهذه الطريقة المحكمة المتقنة للوصول لحكم قاطع، فما يثار حول المملكة وتطبيقها للحدود هو لأغراض سياسية محضة وكراهية لدين الله قال تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ وقال تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ، وأما إيران وأعوانها فيعلمون صواب ما نحن عليه وأن هذا حق المملكة وأن درجات التقاضي منتهى العدل، ولكنهم يكابرون وينافقون لأنهم حفنة من المرتزقة والأفاقين، وانظر للاتفاق العجيب بين الغربيين والإيرانيين فقد وافق شن طبقا اجتمعوا على بغض الشرع.
أ. د . محمد بن يحيى النجيمي