الصيد الجائر للطيور المهاجرة.. وخطر الانقراض ">
تحتفل دول مجلس التعاون الخليجي في الثلاثين من شهر ديسمبر من كل عام بيوم الحياة الفطرية بدول المجلس وذلك بهدف رفع مستوى الوعي بأهمية المحافظة على الحياة الفطرية بالمنطقة، وجاء اعتماد هذا اليوم خلال الاجتماع الثالث عشر للجنة الدائمة للاتفاقية والذي عقد في مقر الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي بالرياض. وقد أُخُتير موضوع الصيد الجائر للطيور المهاجرة ليكون موضوع هذا العام وذلك لإبراز خطورة الصيد الجائر على الطيور المهاجرة، خاصة مع الاهتمام العالمي بالطيور المهاجرة سواء من خلال الاتفاقيات ومذكرات التفاهم وخطط العمل العالمية لدورها المهم في النظام البيئي العالمي، حتى أن كان لها اتفاقيات خاصة بها فهناك اتفاقية الطيور المائية بين إفريقيا وأيوروآسيا ومذكرة التفاهم للطيور الجوارح بالإضافة لتغطيتها مع اتفاقيات أخرى كاتفاقية الأنواع المهاجرة وكذلك متضمنة اتفاقيات أخرى كاتفاقيتي التنوع الأحيائي والمناخ.
ويأتي هذا الاهتمام العالمي لما لها من دور مهم في النظام البيئي العالمي، بالإضافة لعلاقتها بصحة الإنسان والاقتصاد لكثير من دول العالم. ولتوضيح ذلك فإن الكثير من الدول تعتمد في اقتصادها على برامج سياحية في محميات ومنتزهات برية والتي تتواجد بها الطيور المهاجرة خلال تكاثرها أو عند قضائها فترة الشتاء، وهناك الكثيرون ممن يسافرون لمناطق عدة لمشاهدة الطيور البرية والمهاجرة، ويصل دخل السياحة لمشاهدة الطيور بالعالم إلى حوالي بليون دولار سنوياً، ناهيك عن تجارة الأدوات الخاصة بهذه السياحة كالمناظير المقربة (دربيل) والكتب المتخصصة عن طيور تلك المناطق وغيرها من النشاطات المصاحبة، وقد لعبت هذه السياحة دوراً في حماية بيئات الطيور وكذلك في رفع المستوى المعيشي للسكان المحليين.. وقد بدأت عدد من دول الخليج بالاستفادة من ذلك من خلال الرحلات البرية المنظمة لمشاهدة الطيور وكذلك من خلال مهرجانات ومسابقات الصقور والصقارة والتي تدخل مبالغ كبيرة للبلدان التي تقام بها.
وللطيور دور كبير في النظام البيئي فهي مؤشر للتغير بالتنوع الإحيائي والبيئات، فزيادة أعدادها أو نقصها ممكن أن تدل على التغيرات الحاصلة للتنوع الإحيائي وبيئات المنطقة، فهي تتغذى على الحشرات والقوارض وهذا يوفر مبالغ كبيرة يمكن أن تصرف في المبيدات الحشرية، فمثلاً هناك صقر الأميور التي تهاجر من وسط آسيا عبر القارة الهندية لتقضي الشتاء في جنوب إفريقيا، وتقوم بالتخلص من أكثر من 2.5 بليون نملة بيضاء خلال تواجدها بمناطقها الشتوية بجنوب إفريقيا والتي تصل مدتها من 3-4 أشهر بالإضافة للحشرات الأخرى كالجراد الصحراوي وأنواع من الديدان والتي تؤثر على المزروعات، ولكن مع الصيد الجائر على هذه الطيور في شمال الهند والذي قدره بعض الباحثين بحوالي 120-140 ألفاً بين عام 2006- 2012م، فإن المشاكل البيئية والاقتصادية ارتفعت لجنوب إفريقيا وطرحت أعباء اقتصادية كبيرة على جنوب إفريقيا للتخلص من هذه الحشرات الضارة، أو بسبب تأثر الإنتاج الزراعي بسبب زيادة أعداد النمل الأبيض والحشرات الضارة الأخرى.
ومن الدراسات الأخرى التي تشير أيضاً لأهمية الطيور البيئة وأثرها الاقتصادي هو ما حدث في الهند نتيجة تناقص النسور، فبعد تناقص أعداد النسور السمراء الهندية ذات الظهر الأبيض والنسر الأسمر ذي المنقار الطويل بنسب تصل إلى 95 %، وهذا النقص أدى إلى زيادة أعداد الكلاب الضالة حيث قدرت أعداد الزيادة للكلاب الضالة إلى سبعة ملايين كلب بين عامي 1992- 2003م، وهذه الزيادة في أعداد الكلاب الضالة نتج عنه انتشار مرض داء الكلب بالمناطق الريفية والذي أصبح من أكثر الأمراض القاتلة بالهند بالسنوات الأخيرة، حيث وصلت حوالي 40 مليون إصابة، وعليه فإن خسارة خسارة الحكومة الهندية بين عامي 1993- 2006م نتيجة تدهور أعداد النسور قدرت بحوالي 34 بليون دولار.
وأيضاً من أهمية الطيور المهاجرة قيمتها الاقتصادية لكثير من الدول من خلال المداخيل الاقتصادية للسياحة البيئية،
ولا يتوقف أهمية الطيور عند هذا الحد فهي جزء من تراث الشعوب فهي موجودة بالرسومات والكتابات القديمة، كما كانت ولازالت مصدراً لإلهام الإنسان حول العالم وعبر العصور فألوان ريشها وجماله ألهم العديد من الفنانين فظهرت في رسوماتهم كما أورد العديد من الأدباء الطيور في قصصهم وأشعارهم، حتى أصحاب الموضة استلهموا من الطيور وهجرتها إبداعات زادت من ثراء الثقافة البشرية.
كما وثقت في العملات النقدية لكثير من الدول منها العربية ومنها الأجنبية من خلال رسم الطيور في عملاتها، كما أن عدد منها جعلت من بعض الطيور شعاراً لها فالعقاب في الشعار الأمريكي ونسر الكوندور في عدد من دول أمريكا الجنوبية كبوليفيا يعتبر رمز للقوة والعلاج من الأمراض والصقر الحر والشاهين في عملات بعض الدول الخليجية.
والطيور موجودة في ثقافة وحضارة الشعوب بعضها يدل على الخير وآخر يدل على الشر، فالبومة ترمز عند بعض الشعوب إلى الحكمة والمعرفة، وعند أخرى تدل على الموت والظلام، كما أن طائر اللقلق الأبيض يرمز في أساطير شمال أوروبا أنها تجلب الأطفال، وقد أشارت الأفلام الكرتونية بالوقت الحاضر إلى هذه الأساطير، حيث تقوم هذه الطيور بحمل الصغار في بقشة بمناقيرها وتنقلها عبر مداخن المنازل. وهناك طيور الغرانيق والتي ترمز في ثقافة العديد من الدول الآسيوية إلى طول العمر والخلود، فهذه المجموعة من الطيور يعرف عنها أنها من الطيور المعمرة وقد سجل أطول عمر لطائر الغرنوق السيبيري، حيث مات عن عمر يناهز 83 عاماً.
ولا يقتصر إلهام الطيور للإنسان على أشكالها وعمرها ولكن حتى حركتها ورقصاتها والتي ألهمت الكثير من شعوب العالم فبعض رقصات الهنود الحمر ورقصات معينة في الفلوكلور الهندي والياباني لها دلالة على رقصات لطيور معينة. وعند العرب بالجزيرة العربية، فقد ضرب فيها الأمثال فوصف العرب طول عمر الرجل بطول عمر النسور بقولهم (عمره عمر نسر) ولازال هذا المثل يتداول حتى الآن عند بادية بعض المناطق بالخليج العربي. ومن الأمثال التي ذكرها العرب في كتم الأسرار أو استحالة حدوث الأمر قولهم «أبعد من بيضة الأنوق».
ولو نظرنا لمنطقة الخليج فنجد أن الطيور المهاجرة لعبت دوراً في حياة أهل المنطقة فهذه الصقور المهاجرة كالصقر الحر والشاهين البحري شكلت جزءاً كبيراً من تراث للمنطقة، حتى أن منظمة اليونسكو عام 2010م أدرجت الصقارة ضمن التراث البشري العالمي، ولقد كان لدولة الإمارات العربية دور كبير في ذلك وبمساندة قوية من دول مجلس التعاون الخليجي، كما وثق هذا التراث في مهرجانات سنوية عن الصقور والصقارة وربطتها ببرامج علمية وبيئية لتشارك فيها معظم دول العالم في الحفاظ على هذا التراث البشري العظيم. ولا يخفى على الجميع دور الصقور في الشعر العربي الفصيح منه والنبطي فهذا الشاعر حمد السعيد ينشد بعد أن ضاع طيره:
يالطلح ما مرك مع الصبح صافي
طيري غدالي والشمس حيه
اتلا العهد به راح يطرد مقافي
خبري به أومه في جناحه هنيه
ومن أجمل ما سمعته في وصف الطير ما ذكره شاعر يصف طيره قائلاً:
طيرن جليل وحاوين كل شاره
صدره عريض ومقرن الريش ملموم
بياض راسه فارق عن شقاره
عاري بدن من كثرت الريش محروم
فخذه الي جسته سوات الخياره
والساق كنه من القصر مقطوم
افجح سراويله اطوالا اتباره
كنه يغطى اكفوفه الخشن بالهدوم
وبالرغم من أهمية الطيور المهاجرة في حياة وثقافة أبناء مجلس التعاون الخليجي إلا أنه في الآونه الأخيرة خاصة مع زيادة وسائل التقنية الحديثة للصيد ظهرت بعض السلوكيات المخالفة لما أمرنا به ديننا الإسلامي ومخالف للأخلاق الإنسانية، وللأسف الشديد فقد قام البعض بتوثيق هذه الأفعال المشينة في صور وفيديوهات كنوع من التفاخر مما يؤثر سلبياً بشكل مباشر أو غير مباشر على سمعة بلدان هذه المنطقة وشعوبها، وأذكر هنا وبحكم مسؤوليتي كرئيس لفريق العمل العالمي للمحافظة على الزقزاق الاجتماعي وهو من الطيور المهددة بالانقراض بشكل حرج ما حدث بعض نشر صور لصيد هذه الطيور خلال هجرتها بإحدى الدول الخليجية مما جعل الرئيس التنفيدي لاتفاقية الطيور المائية المهاجرة بين إفريقيا وأيوروآسيا إلى مخاطبة مسؤولي الحياة الفطرية وطلب الإفادة عن هذه الأخبار وأهمية قيام برامج للحفاظ على هذه الطيور وهذا بالطبع يحرج المسؤولين بهذه الدولة ويعطي صورة سيئة للبلد وأهله ويقلل من الجهود الجبارة والتي تقوم بها هذه الدولة في الحفاظ على البيئة والحياة الفطرية أمام المجتمع الدولي.
ومن جانب آخر فإن منطقة دول الخليج العربي تقع ضمن مسارات الهجرة للعديد من الطيور المهاجرة، ونسبة كبيرة منها تصل إلى 24% مهددة أو قريبه من مستوى التهديد بالانقراض، ومن بين هذه الطيور المهاجرة والتي تأثرت بالصيد الجائر وتعج مواقع التواصل الاجتماعي بتوثيق صيده الجائر «طائر القمري أو القميري» بالرغم من أن الأنظمة المعمول بها بدول المجلس التي تحمي الطيور المهاجرة، كما أن هذا الصيد الجائر وتوثيقه يبدد كل الجهود المبذولة للمحافظة على هذا الطائر في مناطق تعشيشة بأوروبا، فقد أشارت الدراسات الأخيرة أن أعداد القميري تتناقص بنسبة وصلت لأكثر من 60 % نتيجة لهذا الصيد الجائر على هذا الطائر في منطقتنا الخليجية ومناطق أخرى من العالم، حتى دخل هذا العام 2015م قائمة الطيور المهددة بالانقراض على المستوى العالمي.
والشبك الجائر لبعض أنواع من الطيور المهاجرة خاصة تلك التي تدخل في تراث الصقاره كالصقر الحر والشاهين البحري يمكن أن يؤثر سلباً على أعدادها وعلى الإرث الإنساني المتمثل بالصقارة، حيث تشير دراسة عن أعداد الصقر الحر المشبوكة بالمملكة خلال السنوات الماضية نشرت هذا العام «بأنه لو استمرت عمليات شبك الصقر الحر على الوضع الحالي مع استمرار المهددات الأخرى كتدهور البيئات وغيرها من المؤثرات بمواقع التعشيش والهجرة لربما يؤدي ذلك إلى إختفاء الصقر الحر كطائر مهاجر عبر الجزيرة العربية خلال العشرين سنة القادمة.
والجدير بالذكر أن تقارير صادرة من الاتحاد العالمي لصون الطبيعة (IUCN) والبيرد لايف إنترناشونال تشير إلى أن 80 % من الطيور المهددة بالانقراض أو القريبة من مستوى التهديد بالانقراض بدول مجلس التعاون الخليجي هي طيور مهاجرة، أما النسبة المتبقية فمنها 18 % طيور متوطنة (Endemic) -يقصد فيها الطيور التي لا توجد في أي مكان بالعالم سوى في جنوب غرب الجزيرة العربية- كطائر نقار الخشب العربي والسمنة اليمنية والدخلة اليمنية. أما نسبة 2 % فهي طيور معششة مثل نسر الأذون والنورس أبيض العين، بالإضافة لذلك فإن نسبة كبيرة من الطيور المهاجرة بين أيوروآسيا وإفريقيا تناقصت بشكل كبير خلال السنوات الماضية، حيث يشير تقرير صادر عن سكرتارية اتفاقية حماية الطيور المائية المهاجرة بين إفريقيا وأيوروآسيا بأن أعداد الطيور المائية المهاجرة بين الثلاث قارات تناقص بنسبة قدرت بحوالي 40 %، أما الطيور الجوارح المهاجرة فنسبة التناقص بأعداد الطيور زادت في مناطق تكاثرها بنسبة وصلت إلى 50 %.
إن الصيد الجائر وغير الشرعي للطيور المهاجرة ليس مشكلة بمنطقة الخليج العربي فقط فهناك دولاً أخرى تعاني من هذه المشكلة، حيث تشير دراسات نشرها موقع البيرد لايف إنترناشونال إلى أن هناك حوالي 20.1 مليون طائر مغرد و 100 ألف طائر جارح ومليون طائر مائي تقتل سنوياً في الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط مما أدى إلى اختفاء حوالي 40 نوعاً من بعض المناطق. وتشير إحصائيات إلى أن عدد الطيور المصادة بطريقة غير شرعية في دولة أوروبية كإيطاليا يصل حوالي 5,6 ملايين طائر سنوياً، ولو قارنا هذا العدد بمساحة هذه الدولة لكان هناك 19 طائراً يقتل في الكيلومتر مربع سنوياً، وفي لبنان يزيد العدد حيث قدرت أعداد الطيور المهاجرة المصادة سنوياً حوالي 2.7 مليون طائر، وهذا يعني أن هناك 248 طائراً يصاد في الكيلومتر مربع سنوياً. ومن أعلى الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط في أعداد الطيور جمهورية مصر العربية حيث يصاد سنوياً حوالي 5.7 ملايين طائر سنوياً. وبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي فبالرغم عدم وجود إحصائيات موثقة بهذا الخصوص وصعوبة الحصول عليها وذلك لأن معظم الأنظمة البيئية تمنع صيد الطيور المهاجرة، لكن حسب ما يرد على شبكة التواصل الاجتماعي أن هناك مزارع في شمال المملكة تشبك حوالي 120 ألف طائر خلال الهجرة الخريفية، وهذا يعتبر عدداً كبيراً إذا ما حسبنا أعداد المزارع الأخرى التي تقوم بشبك الطيور.
وعلى أية حال هناك تحركات في دول المجلس لإقرار الشرطة البيئية والتي تدرس الآن من قبل دول المجلس من خلال اتفاقية الحياة الفطرية لدول مجلس التعاون الخليجي، ويمكن أن يساعد وجود الشرطة البيئية في متابعة وتطبيق فعال لأنظمة المحافظة على الحياة الفطرية بشكل عام والطيور المهاجرة بشكل خاص.
وفي الختام أود أن أذكر الجميع بأننا نحن أبناء مجلس التعاون الخليجي اشتهرنا منذ القدم بإكرام الضيف كجزء من ديننا وتراثنا وفينا تضرب الأمثال على الكرم والشهامة، وهذه الطيور المهاجرة تقع في وجهة نظري صفة عابري السبيل ويعلم الجميع حق عابر السبيل، كما أنها ضيوف علينا.. فهل نحن مكرمو الضيف من أمة خلقها الله أمثالنا؟.. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} سورة الأنعام (38)، إن الطيور المهاجرة جزء من التنوع الحيوي العالمي كما أنها أحد معجزات الخالق سبحانه وتعالى ليرينا آياته في الآفاق، وليعرف مدى أمانتنا على هذه الأرض وما عليها فهل نحن محافظون على هذه الأمانة لتلعب هذه الطيور المهاجرة دورها على هذه الأرض وتقوم بما أمرها الله أن تقوم به كأمة أمثالنا؟.
د. محمد بن يسلم شبراق - مستشار غير متفرغ بالهيئة السعودية للحياة الفطرية ورئيس اللجنة التنفيذية للبيرد لايف إنترناشونال لإقليم الشرق الأوسط