د. عبدالرحمن محمد السلطان
يتصف أداء معظم اقتصادات الدول المعتمدة على صادراتها من الموارد الطبيعية الناضبة بتدنٍ واضح، كما تعاني من مشكلات اقتصادية يفترض أن ما يتوافر لها من موارد يجعلها أقدر على إيجاد حلول لها، الأمر الذي ظهر معه وصف ينعت هذه الظاهرة بـ«نقمة الموارد»، أي أن الموارد الطبيعية الناضبة يمكن أن تكون نقمة لا نعمة على البلدان الغنية بها.
ومن بين بلدان العالم القليلة التي نجحت في تفادي كل ذلك النرويج، حيث يتصف اقتصادها اليوم بأداء قوي وبعدم معاناتها من المشكلات العديدة التي تعاني منها البلدان المصدرة للموارد الطبيعية الأخرى، مثل ارتفاع معدلات البطالة، وعدم عدالة توزيع الدخل، وتفشي الفقر، والاعتماد المبالغ فيه على قطاع الموارد.
وكما أشرت في مقال الأسبوع الماضي، فإن هذا لا يعود لوضعها القائم قبل ثروتها النفطية وإنما لنجاحها في منع تسبب تدفق إيرادات النفط على مدى أربعة عقود من أن يحدث التأثير السلبي نفسه الذي أحدثه في معظم اقتصادات الدول الأخرى المصدرة للموارد الطبيعية، وتمكنت من تحقيق ذلك من خلال سياسات واعية تماماً لما يمكن أن يترتب على هذه الطفرة النفطية من أضرار اقتصادية جسيمة، ومن أبرزها السياسات التالية:
1 - مع بدء تدفق إيرادات النفط والغاز وجهت النرويج معظم إيراداتها لتسديد ديونها الخارجية، وباستكمال تسديد هذه الديون رأت النرويج أنها بحاجة إلى أداة مالية بديلة للمحافظة على توازن أسواق الصرف وتفادي نمو السيولة المحلية تفادياً لمخاطر المرض الهولندي ما قادها إلى فكرة إبداعية رائدة وهي صندوق النفط.
من ثم يُخطئ من يعتقد أن الصندوق كان هدفه زيادة معدل العائد على الاستثمارات الخارجية، فالسبب الرئيس لقيام الصندوق هو إيجاد آلية تحقق درجة عالية من التوازن والاستقرار الاقتصادي في مواجهة تدفق النقد الأجنبي من صادرات النفط والغاز.
2 - وُضع للصندوق تنظيمٌ محكم يضمن قيام الصندوق بدور رئيس في الحد من قدرة الحكومة على زيادة الإنفاق تبعاً لزيادة الإيرادات النفطية، وبالتالي حماية الاقتصاد النرويجي من التأثيرات السلبية للنمو المبالغ فيه في الإنفاق الحكومي، بحيث أصبحت معدلات هذا الإنفاق بسبب القواعد التي تحكم علاقة الحكومة مع الصندوق مستقلة عن تذبذبات إيرادات النفط، فلا تقوم الحكومة بإجراء زيادة كبيرة في هذا الإنفاق عندما ترتفع الإيرادات، كما لا تجد نفسها أنها مضطرة لتخفيضه عند تراجعها كما هو حال معظم الدول الأخرى المصدرة للنفط.
3 - قصر تمويل الإنفاق الحكومي على عوائد استثمارات الصندوق فقط، وليس على الإيرادات نفسها وذلك من خلال وضع حد أعلى للسحب السنوي من الصندوق وهو 4% من إجمالي موجودات الصندوق، ما ضمن توفر مصدر تمويل دائم للإنفاق الحكومي لا يتلاشى بنضوب الثروة النفطية، كما سيكون الحال عليه عند استخدام إيرادات الموارد في تمويل الإنفاق الحكومي بشكل مباشر كما يحدث الآن في معظم الدول الأخرى الغنية بالموارد.
4 - أُلزم الصندوق بأن تكون جميع استثماراته خارج الدول الإسكندنافية ما ضمن إخراج إيرادات النفط والغاز من الاقتصاد المحلي على شكل استثمارات مالية خارجية، وأوجد بالتالي آلية رائعة تضمن توازن أسعار الصرف تضاف إلى دوره في تحقيق استقرار معدلات السيولة والتضخم المحلية، فأصبحت النرويج غير مضطرة كغيرها من البلدان المصدرة للنفط إلى تثبيت سعر صرف عملتها.
أيضاً فإن استثمار الصندوق خارجياً وفّر قنوات استثمارية خارجية تحد من دخول الدولة منافساً على الفرص الاستثمارية المحلية ويحد من تضخم أسعار الأصول محلياً، ما يتيح مجالاً أوسع للقطاع الخاص للعب دور أكبر في النشاط الاقتصادي ويسهم في إنجاح جهود تنويع النشاط الاقتصادي.
5 - وضع تنظيم مالي لإدارة إيرادات النفط والغاز ركيزته الصندوق يتصف بدرجة عالية من الشفافية، ما ضمن رقابة شديدة على هذه الإيرادات وحدّ من الفساد المرتبط بوفرة الموارد والمبالغة في نمو الإنفاق الحكومي التي تعاني منها معظم الدول المصدرة للنفط.. فنمو الإنفاق العام بما يفوق قدرة الإدارة الحكومية على ضمان النزاهة يتسبب في استشراء الفساد، كما أن الحاكمية والرقابة على المال العام التي كفلها التنظيم المالي الذي يخضع له الصندوق يضمن درجة عالية من الشفافية والمحاسبة الدقيقة لأوجه استثمار موجوداته والذي ينعكس في تحقيق درجة عالية من شفافية وكفاءة الأداء الحكومي بشكل عام.
6 - على خلاف ما عليه الحال في العديد من الدول المصدرة للنفط، لم تفتح النرويج سوق عملها للعمالة الأجنبية الرخيصة، وعوضاً عن ذلك عمدت إلى وضع سياسات تسهم في زيادة مساهمة العمالة المواطنة في سوق العمل وبخاصة الإناث بما يضمن إيجاد حل لمشكلة نقص العمالة.. وقد نتج عن ارتفاع مشاركة الإناث في سوق العمل، علاوة على ما ترتب عليه من ارتفاع في العرض المحلي من العمالة، وبالتالي الحد من مشكلة نقص العمالة، أنه أسهم أيضاً في الحد من الضغط على مستويات الأجور التي كان ارتفاعها سيلحق بالغ الضرر في تنافسية القطاع الصناعي ويزيد من تعرض اقتصاد البلاد لأعراض المرض الهولندي.
7 - أيضاً، وعلى خلاف ما عليه الوضع في معظم الدول المصدرة للنفط الأخرى، فإن النرويج نجحت بشكل ملفت في منع تحول قطاع النفط إلى قطاع منعزل عن القطاعات الأخرى في الاقتصاد، وقد حققت ذلك من خلال سياسات استهدفت فرض اعتماد هذا القطاع في تأمين احتياجاته على الشركات المحلية وضمان درجة عالية من الارتباطات الأمامية والخلفية لهذا القطاع بالقطاعات الأخرى في الاقتصاد، حيث فرضت النرويج على الشركات الأجنبية العاملة في قطاع النفط اعتماداً تاماً على العمالة المواطنة ومراكز البحث والجامعات النرويجية لحل مشكلاتها التقنية المرتبطة بعمليات التنقيب والإنتاج، كما ألزمتها بالاعتماد على القطاعات النرويجية في كل ما يتعلق بعمليات التشغيل والصيانة، ففكّت عزلة هذا القطاع وجعلت دوره في الاقتصاد النرويجي أكبر بكثير من مجرد كونه قطاعاً يوفر نقداً أجنبياً للحكومة كما هو حاله في العديد من الدول المصدرة للنفط.
بالتالي تفادت النرويج نقمة الموارد ليس بسبب كونها دولة متقدمة وضعها مختلف عن الدول الأخرى الغنية بالنفط، وإنما بفضل سياسات واعية تماماً لما كان يمكن أن يترتب على هذه الثروة الناضبة من أضرار اقتصادية طويلة الأمد إن لم توضع سياسات صارمة تضمن تفادي ذلك.