جاسر عبد العزيز الجاسر
عندما يغادر مسؤول كبير كوزير مؤثر أو قائد عسكري، أو حتى كاتب أو مفكر، يعود المتابعون إلى تاريخ الرجل المغادر، ماذا فعل، وماذا أنجز، وماذا حقق؟.. واليوم بعد أن ترجل الأمير سعود الفيصل عن منصب وزير الخارجية بعد أكثر من أربعين عاماً نجد أن التاريخ أقوى من أي كلمة تُقال في حق الرجل، مثلما قال السفير أسامة النقلي.
فالأمير سعود الفيصل دخل أروقة الدبلوماسية السعودية قادماً من وزارة البترول؛ إذ شغل منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية. ومن يومها خاض الأمير سعود الفيصل معارك دبلوماسية صعبة جداً لطبيعة المراحل التي عايشها طوال أربعة عقود.
في الأيام الأولى من تسلمه مهامه لإدارة الدبلوماسية السعودية قابلناه نحن الصحفيين السعوديين والعرب عند مدخل قصر الخليج في الدمام، وكان وقتها مصاباً بكسر في يده اليسرى، يعلقها بضاغط طبي، وقد كان يعيش فترة فقدان والده الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز؛ إذ لم تمر سوى أيام قلائل على استشهاده، ومع هذا كان أمير الدبلوماسية السعودية لا يقعده عن عمله إصابة أو كسر في اليد ولا حزن على فقدان والده الذي لم يكن والداً فحسب، بل كان قائداً ومعلِّماً له؛ ولهذا فقد خلفه وزيراً للخارجية؛ لأن الملك الراحل كان يدير وزارة الخارجية مع قيادته للبلاد، وكان يساعده وزراء دولة، منهم عمر السقاف، وبعدهم الأمير سعود الفيصل الذي أصبح وزيراً للخارجية بعد استشهاد والده. ومن يومها لم يكف سعود الفيصل عن العمل من طائرة لأخرى. وكان قد اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، التي أخذت من الأمير جهداً لا يوصف. وكان لي شرف المشاركة والحضور بجزء يسير جداً من المؤتمرات والمناسبات التي يشارك فيها الأمير سعود الفيصل، وكنت أستغرب طاقته على العمل لساعات طويلة، وطويلة جداً؛ فما إن تنتهي الجلسات حتى يستقل طائرته للتوجه إلى مؤتمر آخر.
ذكر لي عدد من الأصدقاء الذين يعملون مع سموه أنه كان يستغل ساعات الطيران ليأخذ غفوة أو قيلولة، ثم يستيقظ لمراجعة التقارير التي ترافقه أينما اتجه. هذا العمل المرهق الذي لا يمكن أن يتحمله إنسان أصاب الأمير بـ(دسك) في الظهر، وهي إصابة مؤلمة جداً؛ تتطلب علاجات وعقاقير وراحة تامة، إلا أنه غارق في العمل حتى في إصابته؛ وهو ما فاقم الإصابة التي أجبرته على إجراء العديد من العمليات الجراحية التي كانت - والحمد لله - جميعها ناجحة، إلا أن التأهيل الطبي يحتاج إلى سكون وراحة، فمن أين يتحقق هذا لسعود الفيصل المسكون بهاجس العمل المستمر والمتواصل؟ وهو ما أثر عليه جداً؛ وجعل خادم الحرمين الشريفين يستجيب لطلبه بالتخفيف عنه؛ إذ إن ترجُّل الأمير سعود الفيصل على صهوة الدبلوماسية السعودية لا يعني ابتعاده عنها تماماً؛ فستستمر علاقته بالدبلوماسية السعودية من خلال إشرافه على سياسة السعودية الخارجية.