إشارة إلى ما نُشر في العدد رقم (15491) الصادر يوم الخميس الموافق 7 جمادى الأولى، تحت عنوان: (آفة الاستهلاك والتبذير) للكاتب الدكتور فهد بن صالح السلطان تناول في مضمون مقالته الرصينة.. ميول المجتمع السعودي نحو الاستهلاك الترفي على حساب الترشيد والادخار.. مشيراً بلغة الأرقام كمجتمع يتربع على قمة المجتمعات العالمية في التبذير والاستهلاك المفرط واستنزاف مدخراتنا كأفراد ومجتمع... إلخ.
وتعليقاً على ما كتبه الدكتور السلطان عن داء الاستهلاك الترفي كأحد الأمراض الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني من إرهاصاتها ومثالبها معظم المجتمعات البشرية.. ومجتمعنا السعودي تحديدا في خضم غياب الضابط الاجتماعي، واتساع دائرة النزعة الاستهلاكية في قالبها الترفي.. أقول من نافلة القول: إن «الثقافة الاستهلاكية الترفية».. وطبقاً لمفهوم علم الاجتماع الاقتصادي تعني مجمل التصرفات والسلوكيات والعادات والممارسات التي تدفع بالفرد إلى الإنفاق العشوائي بصورة خارجة عن قواعد الضبط الديني والاجتماعي والقيمي.. تتخطى معها حدود الإمكانيات المادية, وبالتالي قد يولّد نمطاً اقتصادياً يعرّضه لمخاطر كثيرة.. ومعروف أن ثقافة الاستهلاك من المواضيع الحيوية التي أضحت في واقعنا المعاصر تحظى باهتمام كثيرٍ من الباحثين في الشأن الاجتماعي والاقتصادي وحتى النفسي لكونها تلعب دوراً مهماً في رقي وتطور المجتمعات البشرية, فالمستهلك الذي يملك ثقافة استهلاكية واعية ومتزنة حتماً ستنعكس - ميكانيكياً - على حياته الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والصحية والعاطفية, بينما شيوع ثقافة الاستهلاك التفاخري أو الترفي في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية.. بقصد التباهي وحب الظهور وتعويض نقص اجتماعي مركب, ومجاراة التقاليد الاجتماعية.. يُعد حالة مرضية، واستنزافاً للموارد، وهدماً للقيم الأخلاقية, والمعايير الاجتماعية الأصيلة.. ربما تلقي بظلالها على الفرد والأسرة والمجتمع بوجه عام إذا زادت معدلات النزعة الاستهلاكية المفرطة واتسعت دائرتها المظلمة!!..
ولا شك أن مجتمعنا السعودي الفتي الذي يعيش مرحلة شبابه في واقعنا المعاصر على اعتبار أن (الفئة الشبابية) تشكّل في تركيبته الديموغرافية ما يقارب 65% من هرمه السكاني.. مصاب بمرض الاستهلاك الترفي الذي يصل في بعض الأحيان حد السفه!!.. لدرجة أن حمّى النزعة الاستهلاكية طالت حتى ذوي الدخل المحدود!.. في سباق حب الظهور وتعويض النقص المركّب، والبحث عن برستيج اجتماعي معين، فضلاً عن الإفراط في الأكل والملبس والإنفاق على كماليات وأشياء غير ضرورية بقصد محاكاة, وتقليد العقلية الاستهلاكية الترفية وسلوكها المرضي وهي - مع الأسف - السمة الطاغية على السلوك الاستهلاكي في مجتمعنا الفتي, خصوصاً أن نمط السلوك الاستهلاكي الترفي أو التفاخري.. يتأصل في وجدان الطفل منذ الصغر.. وعملية التنشئة الاستهلاكية هي عملية مستمرة يتعلم الطفل من خلالها المعارف والمهارات والاتجاهات التي تتناسب مع حصوله على المنتجات, وتشكيل هذا الاتجاه الأخلاقي والحضاري في سلوكه, والأكيد أن دور الأسرة مهم في غرس قيم الوعي الاستهلاكي لدى الطفل.. فالطفل يتعلم السلوك الاستهلاكي كعملية الشراء ومفهوم الميزانية ومفهوم الادخار مثلاً من تأثير سلوك والديه, لكن هذه الثقافة الواعية شبه مغيّبة داخل دهاليز الأسرة السعودية!.. بدليل أن حمّى الاستهلاك الترفي طالت حتى أدنى طبقة من طبقات المجتمع في مجاراة للنمط العام، لا سيما وأن مجتمعنا اليوم كسائر المجتمعات البشرية أصبح يواجه تحديات (النزعة الاستهلاكية التفاخرية) في ظل عالمَ يشهد تغيرات اجتماعية وتحولات اقتصادية رهيبة تدعم ثقافة الاستهلاك الترفي وتعميمها على كافة شرائح المجتمع, وترجع آفة انتشار النزعات الاستهلاكية المفرطة في نسيجنا المجتمعي.. إلى عدة أسباب وعوامل مثل غياب الوعي المجتمعي، وارتفاع مستوى الدخل والتعليم أو الاختلاط بالثقافات الأخرى أو الإقامة في المناطق الحضرية وغيرها من الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية والنفسية, وإن كان في ظاهره مكتسب إلا أنه في حقيقة الأمر يرتبط بعوامل متعددة كما أشرنا سلفاً.. عوامل تتعلق بالشخص كالاستعداد النفسي وإشباع الحاجات الأساسية, إضافة إلى عوامل تتعلق بالمجتمع كالظروف المحيطة بالفرد ذاته والتي ربما تكون مشجعة لنمو هذا السلوك المشين لديه, وأيضاً لا نغفل عن دور وسائل الإعلام بمختلف مكوناتها وقنواتها وتوجهاتها.. فلها أثر مباشر في تفعيل (نظريةلغرس الثقافي الإعلامية) ونشر ثقافة الاستهلاك الترفي من خلال الدعاية الغوبلزية والبرامج الترويجية للأنماط الاستهلاكية المفرطة.. فالمجتمع السعودي هو جزء من العالم العربي الذي يبلغ فيه الاستهلاك العربي الترفي حد السفه، وهذا أكدته العديد من الأبحاث السوسيولوجية والأرقام والإحصائيات المرعبة.. وهي أرقام بقدر ما تحمل من الجزع والهلع بقدر ما تحمل العديد من المفارقات الساخرة والمقارنات الفاضحة التي تدل على مدى التخلف والهوة العميقة التي وقعنا فيها.
ففي دراسة قام بها الدكتور (حسن أبو ركبة) عن سلوك المستهلك السعودي خلص إلى أن 40 - 60% من دخل الأسرة السنوي ينفق على الغذاء،10:20% على الكساء, ومثلها على الترفيه والعلاج والسياحة، و 5:10% على التأثيث ومثلها على الأجهزة الكهربائية 05:15% على التعليم ومثلها على السكن, رغم أن ديننا الحنيف وثوابته الشرعية يرفض كل صور وإشكال وألوان الإسراف والتبذير والاستهلاك غير الرشيد، ولمكافحة عولمة الاستهلاك الزائف, والحد من انتشار مثالبه وأمراضه في مجتمعنا السعودي ينبغي اتباع ما يلي:
* التخلص من القيم الاستهلاكية السيئة، وعاداتها المشينة وبناء الوعي المنزلي عبر أهم مؤسسة تربوية.. وهي الأسرة ووظائفها المختلفة، فالأسرة التي تمارس الضبط الاجتماعي في إطار عملية اجتماعية كبرى، وهي عملية التنشئة الاجتماعية والنفسية والتربوية والعاطفية.. لها دور محوري في الحفاظ على المعايير الاجتماعية الأصيلة وتنمية اتجاهات الوعي الاستهلاكي والأخلاقي والفكري.
* تفعيل دور المؤسسات الدينية ومكوناتها الوظيفية البنائية.. بما يُساهم في رفع مستوى الوعي الاستهلاكي وكبح جماح هذه الثقافة المهيمنة على سلوك الأفراد, خصوصاً أن هناك دراسة متخصصة أظهرت معطياتها العلمية أن تأثير خُطب الجمعة في إيصال المضمون والتوجيه والتوعية أكثر من تأثير الإذاعة والتلفاز.
* تشجيع الأفراد على تبني ثقافة الادخار وتسيير فتح قنوات فعّالة لاستثمار مدخراتهم، وترشيد عملية الاستهلاك في قالبها الإيجابي، وذلك من خلال عقد الندوات الثقافية, والملتقيات الفكرية التوعوية, وورش العمل التنويرية... إلخ.
* إدراج مادة الثقافة الاستهلاكية المنضبطة ضمن مناهج التعليم العام الأمر الذي يساعد في غرس المبادئ والقيم والوعي الاستهلاكي الحضاري في نفوس ووجدان الطلاب والطالبات.. وكبح جماح الفوضى الاستهلاكية الزائفة.
* تكثيف الحملات الإعلامية بمختلف وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة لتبيان آثار الاستهلاك الترفي ورفع سقف الوعي المجتمعي والثقافة الاستهلاكية الرشيدة للأفراد والأسر, فالإعلام معروف أنه شريك في التنمية.. وله حراك (بنيوي) في تنوير العقول وتوعية المجتمع.
* قيام مؤسسات التعليم العالي ومراكز الأبحاث المتخصصة بالتعاون مع الجهات المختصة بالمجتمع المدني.. بإجراء العديد من الدراسات العلمية والأبحاث الرصينة حول هذه الظاهرة المجتمعية الخطيرة.. وإيضاح آثارها وانعكاسها على سلوك وثقافة الفرد والأسرة والمجتمع بشكل عام, وإيجاد الحلول العلمية التي من الممكن أن تحد من انتشار آفة النزعات الاستهلاكية المفرطة وضبط توازنها.
خالد الدوس - باحث اجتماعي
kaldous1