بتنا نعيش في ظل عولمة كونية عاتية بتجلياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وما صاحبها من ثورة غير مسبوقة في العلم والتقنية والمعرفة والمعلومات والاتصالات، التي اختزلت وطوت المكان والزمان وحولت العالم إلى قرية كونية، غير أنه في المقابل نرى المفارقة المفجعة في الوضع العربي العام الهش، حيث عملية التفكيك والهدم ومن ثم إعادة تركيب وصوغ أوضاع المنطقة العربية تظل أمراً قائماً على الدوام، في حين اكتفت الدولة العربية، بتدوير وترحيل أو إدارة أزمتها في أحسن التقديرات. ضمن هذه الرؤية نستطيع فهم ما يجرى من حوادث مأساوية في العديد من البلدان العربية، حيث تتفاقم حدة الصراعات والاحتقانات الطائفية والدينية والأثنية.
هشاشة الوضع العربي العام وقابليته الداخلية للاختراق والانفجار لا يعودان إلى التآمر الخارجي أو الداخلي في المقام الأول، وإنما نتيجة للممارسات والسياسات الرسمية الفاشلة، التي تتسم عموماً بضيق الأفق وتقديم المصالح الفئوية الخاصة والآنية على حساب المصالح الوطنية والقومية العليا. كما لا نستطيع إغفال الدور التخريبي والمدمر الذي تمارسه الجماعات الإسلامية التكفيرية/ المتطرفة التي باتت تمتلك أجندتها السياسية والأيديولوجية الخاصة (والمتداخلة مع اختراق مخابراتي إقليمي ودولي) وتسعى جاهدة إلى فرضها عن طريق العنف والإرهاب المادي والرمزي، وقد تمكنت في العديد من الدول من اختطاف المجتمع مستفيدة في الغالب من غض النظر عنها، بل وفي حالات وأوقات عدة استفادت من رعاية قوى متنفذة في الدولة، أو رعاية ودعم أطراف إقليمية ودولية، كما تستهدف تلك الجماعات عن طريق العنف والإرهاب إلى اختطاف الدولة ذاتها (على غرار وحش فرانكشتين في رواية ماري شيلي الذي تمرد وقتل صانعه) مستفيدة من حال الفراغ العام في المجتمع نتيجة تغييب وإقصاء القوى السياسية والتيارات المدنية على مدى العقود الماضية.
حالة التدهور والتفكك السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والأمني تسود غالبية الدول العربية، غير أن جذر الأزمة ومعطياتها موجود وكامن (بنسب مختلفة) في جميع البلدان والمجتمعات العربية التي تتشابه في أوضاعها وظروفها العامة، وبالتالي ستظل على الدوام عرضة للتفكك والانهيار حين تتوافر أو تنضج الظروف والعوامل المواتية لذلك، سواء بفعل ديناميكية الحراك والفرز الاجتماعي، واحتدام التناقضات بفعل الأوضاع السياسية والاقتصادية المتدهورة، واستفحال الصراع الإثني والديني والطائفي والجهوي الداخلي، أو بفعل المؤثرات والعوامل (الدولية والإقليمية) الخارجية التي قد تدخل على الخط بدوافع مصلحيه في المقام الأول.
التوصيفات والتفسيرات المطروحة لأزمة الواقع العربي وإن كانت صحيحة، إلا أنها لا تعطي تحليلاً إجمالياً وشاملاً في توصيف الأزمة وتحديد ملامحها ومظاهرها، وبالتالي تلمس طريق الخلاص والتجاوز. وهو ما يؤكد الحاجة المشتركة إلى تملك واستعادة الوعي الموضوعي والتاريخي بجوهر الأزمة ومعضلات الواقع وبما يساعد على فهمه وتحليله، ومن ثم تغييره عن طريق إرساء واستنبات مشروع نهضوي عربي جديد، يستمد عناصره من الواقع المعيوش والملموس، ويتجاوز عثرات وسلبيات المشروع النهضوي الأول, والذي لا يزال في ظني محافظاً على راهنيته في مفاصله الأساسية، غير أنه يتعيَّن أن يستمد عناصره من مجموع قوى وأطروحات التجديد والتغيّر الاجتماعي من دون استثناء، ما يتطلب الانفتاح والقبول والتسامح المتبادل من قبل الجميع، بأمل الوصول إلى تحديث الذات والهوية الوطنية، القومية، الإسلامية، والإنسانية وتأصيل مفاهيم الحداثة والعقلانية والحرية والديمقراطية. الأمر الذي يتطلب رؤية استشرافية للمستقبل تحتمل عدة سيناريوهات مختلفة، أولها بقاء الوضع على ما هو عليه والذي يعني مزيداً من الارتهان والتبعية والتخلف والتشرذم والتآكل والانقسام الأفقي والعمودي، ويحمل في طياته خطر التفتت والحروب الداخلية في داخل الأقطار العربية أو فيما بينها، وما يجري الآن في العديد من الأقطار العربية من صراعات وحروب أهلية ما هو إلا أمثلة على ذلك. الخيار الآخر أن يرتفع العرب حكاماً ونخباً ومحكومين إلى مستوى التحديات التاريخية والحضارية التي تفرضها العولمة، ويمسكوا بقوة بمكامن قوتهم المادية والحضارية، ويشقوا طريقهم ومسارهم الخاص على أساس المشاركة بندية وتكافؤ اقتصادي وثقافي مع الآخر ضمن الحضارة الإنسانية المعاصرة.
وهذه الرؤية الاستشرافية للمستقبل تتطلب تحقيق جملة اشتراطات أساسية وخصوصاً في ضوء «الثورات» العربية التي تفجرت منذ نهاية 2010، يأتي في مقدمتها تحرير الإنسان العربي، وتحرير إرادته وقدراته في صنع مستقبله، والاستناد إلى صياغة إستراتيجيه وطنية وقومية للتنمية المستدامة الشاملة، تنطلق من الاعتماد على الذات (قدرات وموارد وبشر) ورفض الاستعارات التنموية الجاهزة والتي أثبتت الحياة والتجربة التاريخية فشلها في تحقيق وإنجاز التنمية الحقيقية، والتقدّم الاقتصادي والاجتماعي، وأنه ينبغي ابتكار الأدوات والخطط والبرامج التي تأخذ بعين الاعتبار الواقع العربي بكل تضاريسه ونتوءاته.
يقول المثل الصيني «هناك مشكلة عويصة ولكن أيضاً فرصة سانحة للأفضل».