Tuesday 15/04/2014 Issue 15174 الثلاثاء 15 جمادى الآخرة 1435 العدد
15-04-2014

النظام بين الاحترام والإرغام

وضع أحدهم صورة على أحد مواقع الاتصال الاجتماعي لعداد نقود في حافلة متعطل وقد انتشرت الأوراق النقدية حوله لركاب أصروا على الدفع سواء أخذ الجهاز أجرتهم أم لا، وسواء شاهدهم غيرهم أم لا، وأظن أن ذلك كان في الدنمارك.ولا يوجد محصل أجرة، كمساري باللغة العامية،

في معظم قطارات وحافلات أوروبا ورغم ذلك تلتزم الغالبية العظمى من الركاب بالنظام، والدفع. ويفتخر البريطانيون بأنهم نظاميون دونما حاجة لإرغامهم على إطاعة الأنظمة. ونحن نتكلم هنا عن الأغلبية الغالبية من المواطنين ونستثني من ذلك قلة منهم، وكذلك كثير من المهاجرين من دول لا يوجد بها احترام للأنظمة، وينقلون عدم اكتراثهم بالأنظمة لدول هجرتهم.

ونتساءل دائماً عن الأسباب التي تقف خلف احترام الفرد السعودي للأنظمة عندما يكون في الخارج، ولو كان ذلك في دول خليجية مجاورة، وضرب بعضهم باحترام الأنظمة عرض الحائط في الداخل أي في بلدهم التي أحرى بهم أن يحترموا أنظمتها؟ أي بعبارة أخرى، الأنظمة في الخارج تطاع بالاحترام، وفي الداخل هناك حاجة دائمة لفرضها بالغرامة والإرغام. هذا هو التساؤل الدائم، أو سؤال المليون دولار كما يقول الأمريكان عندما يبحثون في مسألة صعبة. فالفرد هو الفرد، والتربية هي التربية، وما يختلف فقط هو بيئة السلوك.

لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال علينا أولاً أن نفكر في أسس الأنظمة، وطبيعتها، وأهدافها، وعلاقتها بالناس. فأساس النظام هو القبول والاحترام لا الضبط والإرغام، والأنظمة التي تتطلب القوة والحزم الشديد لتطبيقها هي الأنظمة الأضعف التي يكون هناك خلل ما، إما في طبيعتها، أو طريقة سنها، أو في عدم فهم الناس لأهميتها، فالإنسان يختلف عن الحيوان في عقله وعاطفته، وكلما اقترب تصرف الإنسان من الحيوان، أي أصبح بلا عقل، كلما كانت هناك حاجة لردعه بالقوة، أي حاجة لإرغامه، والعكس صحيح.

فلو أخذنا، مثلاً لا حصراً، نظام السير لدينا لوجدنا بلا أدنى شك أن شوارعنا ساحات صراع ألم تكن ساحات اقتتال مروري، وقد نستغرب أحياناً من أن أناس على خلق عال ويبحثون عن الخير للناس، بل ربما هم منخرطون في أعمال خيرية وتطوعية فعلاً، ولكنهم مصابون بالفلتان المروري، أي قيادة مركباتهم بلا نظام أو احترام للأنظمة أو للآخرين. وتلاحظ أحيانا سيارات الجمعيات الخيرية، أو سيارات الجهات الأمنية والمروية في مخالفة صارخة لنظام من أنظمة المرور بينما يفترض أن يكونوا قدوة في الالتزام به.

للإجابة عن هذه الأسئلة المحيرة لا بد للعودة لجذور القضية، وهي موقف النظام من الفرد، وموقف الفرد من النظام، فهناك اعتقاد شائع، وهو في نظر الكاتب خاطئ، وهو أنه على الفرد احترام النظام بدون أن يكون على النظام احترام الفرد. فمن أهم مبادئ وأسس الإقناع، أياً كان نوع الإقناع، بما في ذلك اتباع نظام ما، المصلحة المتبادلة. وعندما يقتنع الفرد بأن النظام يحترمه، وأنه في مصلحته فهو بلا شك سيحترمه دونما حاجة لإرغامه على احترامه، والعكس صحيح. ومنطقياً فإن تعميم الإرغام هو أول علامات فشل النظام.

الدول التي تستشير أفرادها في الأنظمة، أو تحرص على شرحها لهم وشرح فوائدها بشكل مقنع، هي غالباً دول قد أجرت دراسات على هذه الأنظمة وتعرف أهميتها ولا تحتاج رأي المواطن، وقد تكون جربت هذه الأنظمة بشكل محدود قبل التوسع في تطبيقها؛ لكنها تعي أن أخذ رأي المواطن، أو على الأقل إشعاره بأن رأيه مهم، هو ما يدفعه لاحترام الأنظمة. وعكسه عندما تعلن جهة ما لمواطنين عبر أحد مسئوليها أن لديها أجهزة حديثة لضبط حركتهم وأنها ستعاقبهم ولن تقدر مواقفهم، ثم تفرض عليهم غرامات مادية مجحفة، هنا حتما سيكون التزام الفرد بالأنظمة مصدره الخوف لا الاحترام، وسيعوض مخالفته بأكبر منها في أول فرصة يتأكد أن المصائد الإلكترونية بعيدة عنه.

وآفة الأنظمة، والدافع الأول لمخالفتها، إحساس المواطن بعدم عدالتها، أو استثناء آخرين منها، وعلى وجه الخصوص بعض القائمين عليها. ومعروف أن أكبر تحايل في الغرب على الأنظمة هو في مجال دفع الضرائب لأن الجميع يعتقد بعدم عدالتها، فالفقراء يعتقدون أن الأغنياء هو من يجب أن يدفعها فقط، والأغنياء يعتقدون أن في ذلك إرغام لهم لدفع أموال تعبوا عليها لفقراء سبب فقرهم الأول كسلهم. ولكن الجميع يلتزم ببقية الأنظمة ويحترمها. والأصل في الأنظمة العدالة ومراعاة دخل الفرد ونوع المخالفة. فمخالفة تساوي بين عقوبة تجاوز للسرعة بسبعة كيلومترات وتجاوزها بسبعين كيلاً برغم انعدام المقارنة بينهما من حيث الخطورة توحي بأنها لا علاقة لها بسلامة المواطن. وثلاثمائة ريال تعد مخالفة مجحفة لغالبية المواطنين لاسيما إذا ما قورنت بقيمة مخالفات في دول أخرى أعلى دخلاً. وكذلك، وهذا أمر مهم ليس هناك اهتمام كاف لإطلاع المواطن على الجهة التي تذهب لها المخالفات، وما طبيعتها.

كما أن احترام نظام معين ينبع من احترام الأنظمة الأخرى المتعلقة به أو أخرى قريبة منه، وهنا نأتي لسبب اتباع الفرد للنظام في الخارج أكثر من اتباعه لأنظمة في الداخل. فالمواطن في الداخل يعتقد أن المخالفة هي الأصل والعرف وهو ليس استثناءً منها، فالمقاول يخالف في التنفيذ ويقدم طريقاً مليئاً بالحفر دونما مساءلة؛ والحفريات والتحويلات تبقى في الطرق لسنوات ولا أحد يهتم براحته أو وقته أو سلامة مركبته. مجارير البنايات حولت الشوارع لأنهار ومصلحة المياه لا تتحرك، ولكنها تقطع الماء فوراً عن بيته لمجرد أن خزان منزله فاض وخرج للشارع. والأهم من ذا وذاك هو أن المواطن لا يرى رجال المرور في الأماكن التي يحتاج إليهم فيها وهو تسيير السير أوقات الذروة، والحرص عليه وقت الذهاب للعمل أو الانصراف منه. وهو يرى بعض رجال المرور حتى ولو كان قريباً من مكان الاختناق لا يكترث بتصحيح السير أو تنظيمه، فرجل المرور في نظره وضع حارساً عليه لا موظفاً لخدمته. هذه أمثلة على بعض الأمور التي قد تخلق تصوراً لدى المواطن بأن النظام هو لضبطه فقط وليس لخدمته.

غير أن المواطن ذاته إذا ذهب إلى بلد آخر، ولاحظ أن الشوارع نظيفة، والتحويلات منظمة بشكل جديد، ورجال النظام مهتمون بتطبيقه من أجل راحته، والأهم من ذلك أنه يلاحظ أن النظام يطبق على الجميع بلا استثناء، والكبير يحترم النظام قبل الصغير، وأن المسئولين الكبار يضربون قدوة في الالتزام بالأنظمة، فهو حتماً سيلتزم بالنظام دونما إرغام. ولذا فلا بد من معرفة أن الاحترام يكون في اتجاهين وليس في اتجاه واحد، فالأنظمة التي تبدي اهتماماً بالمواطن، ويحس باحترامها له، ويقتنع أنها أساساً لخدمته، هي أنظمة ناجحة لا تحتاج لجهود كبيرة في تطبيقها، غير أنه عندما يصرح مسئول بأن المواطنين لا ينفع معهم إلا العقوبة، وإجبارهم على دفع مخالفات تؤلمهم مادياً هي الوسيلة الوحيدة لضبطهم وتنظيمهم، فنحن أمام فهم مجتزأ للنظام، ومعروف أن أساس الأنظمة في مختلف الشرائع هي خدمة الناس وليس تأديبهم.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب