مرت ثلاث سنوات متقلبة على ما سمي الربيع العربي الذي بدأ يتحول اسمه إلى خريف قاس.. كل نصف سنة تنقلب الحالة على ما قبلها.. قبل أشهر في مصر كانت جماعة الإخوان المسلمين في هرم السلطة والآن اعتبرت منظمة إرهابية!
التقلبات السياسية تؤدي إلى اضطراب اقتصادي لفترة ثم يعود الاستقرار والانتعاش الاقتصادي. لكن كيف نُقدِّر هذه الفترة، وما الذي نتوقعه خلالها من الناحية الاقتصادية؟ يمكن ذلك عبر مقاربتين؛ الأولى بالمقارنة مع الحالات السابقة والأخرى بدراسة تطور الحالة نفسها.
المقارنة المنهجية مع الدول التي مرت بتحولات سياسية مشابهة قامت بها دراسة ممولة من صندوق النقد الدولي، بعنوان «اقتصاديات التحولات السياسية: الآثار المترتبة على الربيع العربي» (خاندلوال ورويتمان؛ 2013)، قارنت بين تجارب سابقة مماثلة لأحد عشر بلداً من «العالم الثالث»، مثل: هندوراس 2009، الأرجنتين 2001، جنوب أفريقيا 1990، الفلبين 1983، كوريا 1980، مع كل من: تونس، مصر، ليبيا، اليمن، الأردن، المغرب.
خلصت الدراسة إلى أن التجارب السابقة تعرضت لتدهور اقتصادي حاد استمر لنحو خمس سنوات كمعدل عام، وكان الانتعاش على المدى المتوسط بطيئاً؛ والتطورات الاقتصادية بالدول العربية المدروسة تمر بمرحلة انتقالية مماثلة عموماً لكنها تميزت بضعف أكبر في الوضع المالي والبيئة الاقتصادية الخارجية وارتفاع الأسعار، باستثناء الأردن والمغرب كانتا أكثر استقراراً. وتتوقع الدراسة أن فترة الركود ستكون أطول للدول المدروسة مما أخذته دول المقارنة... ثمة دول أمامها سنوات عجاف!
إذا انتقلنا إلى دراسة الحالة لمعرفة تأثير الربيع العربي على اقتصاديات المنطقة العربية، نجدها في دراسة شاملة نشرتها المجلة الشهرية (Consensus Economics) المتخصصة في دراسات الحالة الاقتصادية الدولية، قام بها مجموعة باحثين (أوليفر ماسيتي وآخرون 2013)، شملت بلدان شمال أفريقيا وشرق المتوسط واليمن.. أوضحت أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي انخفض مع الربيع العربي بالمنطقة المدروسة من 4.2% عام 2010 إلى 2.2% عام 2011، بالغاً أدنى مستوى له في أكثر من عقد، باستثناء المغرب التي عززت نموها. وفي عام 2012 انخفض الانتعاش الاقتصادي بالمنطقة حيث ارتفع متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.4% فقط. وتتوقع الدراسة ارتفاع النمو إلى 3.5% مع نهاية عام 2013، لكنها ستظل أقل من مستوياته ما قبل الربيع العربي.
ما الذي يتعين عمله؟ تقول الدراسة أولاً، يجب على هذه الحكومات الانتقال من كونها أرباب العمل الأساسي إلى خلق البيئة المناسبة للقطاع الخاص لتوفير فرص العمل. لكن في أعقاب الربيع العربي، اتخذت عدة دول النهج المعاكس، مستخدمة التوظيف بالقطاع العام وزيادة نفقات الدعم لمواجهة الاحتجاجات الشعبية! ثانياً، تحسين بيئة الأعمال لتحفز نمو القطاع الخاص وزيادة فرص العمل للسكان. ثالثاً، إصلاح نظم التعليم لإعداد الخريجين على نحو أفضل لمتطلبات وظائف القطاع الخاص.
وتنبه الدراسة من أن طريقة الدعم الحكومي الحالي غير مجدية؛ فالإعانات، خاصة دعم الطاقة، كانت لمدة طويلة عنصراً أساسياً من أنظمة دولة الرعاية للبلدان العربية، لكن بالسنوات الأخيرة نتيجة ارتفاع أسعار السلع الأساسية وعدم الاستقرار السياسي زاد الإنفاق الحكومي على الدعم لمستويات لا يمكن تحملها، خاصة بالبلدان المستوردة للطاقة. هذا هو السبب الرئيسي للانكماش المالي وتزايد نسب الدين على الناتج المحلي. علاوة على ذلك، فإن المستفيد الرئيسي من الدعم لم تكن الشرائح الفقيرة من السكان التي بالأساس يستهدفها هذا الدعم!
لقد أدت الإعانات الحكومية المرتفعة قبل الربيع العربي إلى زيادة معدلات استخدام الطاقة بالشرق الأوسط، بينما على مدى العقدين الماضيين، انخفضت كثافة استخدام الطاقة بجميع مناطق العالم الأخرى! وهذا يعكس كيف أن دعم الطاقة أدى إلى التركيز على النشاطات الاقتصادية ذات الاستهلاك الكثيف للطاقة، وانخفاض كفاءة استخدام الطاقة في النقل والاستهلاك الخاص.
كيف يمكن إصلاح طريقة الدعم الحكومي؟ في أواخر عام 2012، بدأت بعض الحكومات العربية باتخاذ خطوات لمعالجة تزايد الإعانات. مثلاً، ألغت مصر الدعم على البنزين العالي الجودة، وقامت بخطوات أخرى مثل رفع الدعم عن الصناعات الثقيلة، وإيجاد برنامج تجريبي لتوزيع منتجات الطاقة المدعومة من خلال كوبونات «البطاقات الذكية». وفي الأردن، ألغت الحكومة دعم الوقود بالكامل في نوفمبر 2012، مما أدى إلى أكبر احتجاجات في البلاد منذ بدء الربيع العربي. أكبر عقبة تواجه هذه الحكومات في مجال إصلاح أنظمة الدعم هو احتمال عدم الاستقرار السياسي نتيجة لهذا الإصلاح. وقد أكدت المنظمات الدولية على الحاجة إلى الإصلاح المنهجي للدعم، على أن تكون كل خطوة إصلاحية مفسرة وتُشرح بوضوح للجمهور لتجنب الاضطرابات المحتملة.
أولى الخطوات هو التحول من الدعم الشامل إلى دعم نوعي محدد مثل نظام الكوبونات أو التحويلات النقدية المباشرة ليساعد على تخفيف الآثار على الشرائح المنخفضة الدخل من السكان، مع خفض مستويات الإنفاق على الدعم الشامل. كما أن الخفض التدريجي للدعم على الصناعات الثقيلة سيساعد على التخفيف من احتمال حدوث ضرر للقطاع الخاص. أما الحيز المالي الذي ينتجه إصلاح الإعانات فيمكن استخدامه لتحفيز النمو الاقتصادي في القطاعات الأكثر ديناميكية.
ثاني الخطوات تتمثل بتعزيز العلاقات الاقتصادية البينية داخل المنطقة العربية، فالعلاقات التجارية الحالية تميل بشدة نحو الاتحاد الأوروبي وهو الشريك التجاري الأكبر بالنسبة لجميع البلدان المشمولة بالدراسة، باستثناء الأردن، الذي يتاجر أكثر مع السعودية، واليمن مع الاقتصاديات الآسيوية النامية. مجمل التجارة البينية للبلدان العربية المدروسة تشكل حالياً حوالي 3% فقط من اقتصادها، بسبب الحواجز التجارية بين دولها، والاختناقات اللوجستية كارتفاع تكاليف النقل والاتصالات، وتخلف البنية التحتية..
آخر الخطوات، وبالنظر لضعف النمو الاقتصادي لأوروبا، هي في إنشاء علاقات أوثق مع الأسواق الناشئة (دول شرق آسيا، الهند، البرازيل، روسيا) من أجل تحفيز الصادرات والاستثمار معها، فعقد اتفاقيات تجارية تفضيلية مع تلك الدول له مزايا تنافسية لا سيما انخفاض تكاليف العمالة.
إذا كانت هذه الإصلاحات الاقتصادية ستترجم إلى تحسينات ملموسة ومستدامة في مستويات المعيشة لسكان المنطقة وتخرجها من الظروف الخانقة التي سببت الربيع العربي، فإن بعض الدول العربية أمام معضلة أخرى تكمن في الوصول إلى الاستقرار السياسي.. كم سيتطلب ذلك من الوقت وما هو المتوقع؟ لذلك وقفة أخرى...