تمتد معرفتي بالدكتور إبراهيم المفلح لأكثر من 20 عاماً، رحمه الله رحمة واسعة، فهو أحد أعمدة جماعة مسجد أعضاء هيئة التدريس بالسكن الجامعي بجامعة الملك سعود، يصلي الفجر مع الجماعة وينتظر حتى بعد شروق الشمس ليصلي ركعتين قبل ذهابه إلى العمل بمستشفى الملك خالد الجامعي ماشياً على الأقدام، دون أن يفتر لسانه عن ذكر الله، وتراه خاشعاً في صلاته، حافظاً للقرآن الكريم كاملاً، ويتأثر به كثيراً ويقرأه بتدبر، سواء كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الذين يبكون عند سماع القرآن الكريم أو تلاوته ويتأثرون به، حيث يقول المولى عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (58) سورة مريم. ومن المواقف التي لا أنساها عندما وقفنا بالسيارة أمام إشارة (قف) المرورية، فنظر إليها ثم بكي، فقلت له: ما يبكيك؟ قال: تذكرت قول الله سبحانه وتعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} (24) سورة الصافات. ويزداد تأثره بالقرآن في شهر رمضان، خاصة أثناء صلاة التراويح، ويذرف الدمع عندما يأتي خبر رؤية هلال شهر شوال لفراق شهر رمضان وليالي التراويح والاعتكاف، وكان يتمنى أن يمتد شهر رمضان شهراً آخر. وكان له ورد يومي من القرآن الكريم يحرص على أن يأتي به مهما كانت الظروف، فقد كنت معه في سفر بالسيارة إلى خارج مدينة الرياض، فاستأذن مني أن يواصل قراءة ورده اليومي أثناء الرحلة، وأخذ معظم وقت الرحلة وهو في قراءة القرآن. وكان على دراية بألفاظ القرآن الكريم ومعانيه حتى يظن السامع لشرحه لآيات الله أنه ضليع في اللغة العربية. وكما كانت سيرته الحديثة مؤثرة عجيبة فإن سيرته الأولى أيام بعثته لا تقل عجباً وتأثيراً، فبعد حصوله على الثانوية العامة ابتعث لدراسة الطب في ألمانيا وكانت تلك السفرة الأولى له خارج المملكة، وكان خلالها حريصاً على أداء الصلاة في وقتها وصيام شهر رمضان، حتى أنه بعد انتهاء دراسته الجامعية في ألمانيا أثنى عليه أستاذه الأجنبي مادحاً خلقه وتمسكه بدينه في بلاد الغربة، على خلاف ما يكون من بعض المبتعثين الذين يتأثرون بالحضارة الغربية في سلوكهم وتصرفاتهم.كان رحمه الله على خلق جم وتواضع كريم، يمر على الأطفال والعمال أثناء ذهابه وعودته من المسجد فيسلم عليهم، وكان تعامله الراقي مع الأطباء والممرضين والممرضات نموذجاً للأخلاق الكريمة حتى أن بعض غير المسلمين قد أسلم لما رآه من خلق وتواضع وأدب الشيخ الكريم. حتى قال أحد العمال لم يعانقني عند عودتي من سفري إلا إبراهيم المفلح. وكان حريصاً على التواصل مع أهله ورحمه وأصدقائه، وكانت آخر زيارة له بعد عيد الأضحى الماضي لمدينة
(تمير) لزيارة أخيه في الله الشيخ ناصر الغانم، شفاه الله، على الرغم من شعوره بالتعب نتيجة لبداية مرضه. ولقد تأثر كثيراً كل من عرف الدكتور إبراهيم المفلح عند سماع خبر وفاته، ذلك لما تركه هذا الشيخ الجليل العالم الطبيب، من أثر طيب في نفوس الجميع، سواء بين زملائه أو طلابه أو المرضى الذين تعاملوا معه وكانوا على قرب منه ولمسوا علمه وخلقه وتواضعه، ففي أحد الأيام دخل عليه أحد المرضى للمراجعة، فقال له المريض عندما رآه ورأى تواضعه ولمس خلقه الكريم: هل أنت الدكتور إبراهيم؟ فرد عليه: نعم، فقال المريض: لو كنت رأيتك في مكان آخر لظننت أنك فلاح. فابتسم أبو عبدالله، وقال: نعم الوصف، فنحن نعتز بأجدادنا الذين كانوا يعملون في فلاحة الأرض. وكان رحمة الله عليه حريصاً على كتابة التاريخ الهجري في تقاريره ووصفاته الطبية، ويتألم كثيراً عندما يجد تجاهل الكثير من الأطباء لكتابة التاريخ الهجري في تقاريرهم الطبية وغيرها، وكان يحث الجميع على عدم التساهل في هذا الشأن. أما تميزه في علمه، فقد قام بنشر الكثير من الأبحاث الطبية عن الجهاز الهضمي، وتلك الأبحاث منشورة في مجلات طبية علمية عالمية متخصصة، التي تجازوت 130 بحثاً، كما أنه قام بتحكيم الكثير من الدراسات والأبحاث الطبية التي ترد إليه من خارج المملكة، ففي الأيام الأخيرة من حياته قام بتحكيم أكثر من ستة أبحاث في وقت واحد، ويشهد له طلابه وزملاؤه المتخصصون بالتميز على مستوى المنطقة والوطن العربي، فهو مفخرة لجامعة الملك سعود وللوطن، وآمل أن تضع الجامعة ما تراه مناسباً لإبراز نشاطه العلمي المتميز ليقتدي به طلاب العلم ويكون نبراساً لهم ويبقى في ذاكرة الأجيال، كأن يتم إطلاق اسمه على إحدى قاعات كلية الطب وإصدار كتيب يحوي نشاطه العلمي، أو يتم تشكيل لجنة من كلية الطب لوضع مقترحات عملية لتكريمه.
رحم الله الشيخ الأستاذ الدكتور إبراهيم المفلح، وأسكنه فسيح جناته وجزاه الله خير الجزاء وعفا عنه، وألهم أهله ومن يعرفه الصبر والسلوان، فلقد فقدنا عالماً ورعاً ذا خلق وتواضع، ونحسبه من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والله حسيبه. ولا نزكي على الله أحدا.