إلى متى نشخص ببلادة أو بلبلة لدراما الأحداث؟.
إلى متى يتجمّد الدم في عروق أطفال الشام، فيموت محمد وعلي وتيسير وجمان وحلى وياسين وإلياس وسارة برداً، ببساطة يموتون برداً كأن كلاً منهم ليس إلا يرقة أو رقة تسقط من صدر أم ينكل بجسدها الشتاء ينهش بطنها الخاوي ويكسر ظهرها العاري أمام ملأ كان بشراً حياً,
فحوّلته فوضى الحرب وتخبط الرؤية إلى ثلث تبلد وثلث لا يبالي وثلث فقأ عينيه لئلا يرى روحه تتقصف وكرامته تمرغ في الوحل دون أن يستطيع تمييز العدو من الصديق والمذنب من البريء والقاتل من المقتول، فالكل مسؤول بلا استثناء عن دم شعب الشام المراق.. الكل مسؤول بلا استثناء عن سيكسبيكو بنسختها الشرق أوسطية المكبرة ملايين المرات عن النسخة القديمة بما فيها نحن الذين نظن بأننا لسنا إلا موضوعاً لما يقع علينا من تجارب التوحش السياسي والتغول العسكري بسبب من مثل هذا النمط من حسن الظن باستسلامنا.
إلى متى نضع أصابعنا في آذاننا ونخرج عقولنا من رؤوسنا ونقتلع عيوننا من مآقينا، لنجاري ما يجري أو نصدق أن كوارث الجوار تجري بيد مقادير لا نقدر على ردها ولا نملك بركة الدعاء عليها، فشتات شعب وتهجير أسر بأسرها وتفريغ قرى من كل روح حية وتفتيت إرادات بكامل قواها العقلية وتدمير مدن تاريخية وأحياء كانت تمور بالحياة ليس إلا حريقاً سينمائياً لن يسري إلينا ولن يخنقنا دخانه ولن تعلج أطرافنا ناره أياً كان الغاز والكبريت والمال والنوايا الحسنة والغايات السيئة التي تسببت فيه أو زادت في سعيره.
إلى متى نشخص ببلادة وبلبلة وبشتات رأي وبغموض رؤية لا يضاهيه تاريخ البكاء على هضبة التنهدات ولا تحويل المغول لدجلة والفرات إلى حبر مشرب بالدماء, ولا سقوط القدس بأيدينا في يد الأعداء؟
كأن قدرتنا - مثقفين وشعوباً وأكاديميين وعلماء - شُلّت، أو كأن العقل والفكر المستقل قد تبرأ منا، أو كأننا لم نكن في معلقات حب الحرية وحب الأوطان غير حفنة غرة وحفنة أدعياء.
أين نُخبئ رؤوسنا بعد أن خلنا أننا رفعناها في الربيع العربي، فخاننا التأويل وتحوّل الحلم إلى كابوس لسنا فيه إلا ضحايا أو كومبارس أو بلطجية بعمم ونياشين أبطال، فلم يبق إلا أن ننكفئ من جديد ننقب في تواريخ الهزائم ونستعيد بمزيد من العزة بالإثم كوارث كربلاء؟
كيف لنا أن نعيش.. كيف يطيب لنا شرابٌ.. وكيف يطاوعنا منامٌ أو يستقر تحت ضلوعنا فراشٌ.. كيف نستحل الطعام.. كيف لا تنشق حناجرنا أو يقفل عنا مجرى الهواء، ونحن نلوك الصمت أو نجتر كلاماً مستهلكاً مثل هذا, بينما كارثة أطفال سوريا تعرض على الشاشات كفيلم رعب بربري، كلنا نؤدي فيه دور الأشرار ببطولة مطلقة.
غير أني لا أظن إلا أنه إمعاناً منا للقيام بدور الأشرار ببطولة مطلقة في فيلم تقتيل أطفال سوريا على يد البرد ليس إلا, فإننا لا نريد ولو إشارة بمدى تلطخ وجوهنا ودفاترنا وطعامنا وكل أشكال كتابتنا وضمائرنا بدم الأبرياء.
كما أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وكما أنه كما تكونوا يُولى عليكم، فإن أقدار الشعوب لا تختلف عنها، فالشعوب القوية تصنع أقداراً تملكها، والشعوب الضعيفة تنتج أقداراً منكسرة مشتتة يسهل التلاعب بها.
ليس هذا الكلام استعادة للهجاء النزاري عن حال العرب على وجه التحديد, ولكنه فيض المرارة ونقد الذات قبل الآخر علّها تشكّل محاولة للتغلب على جبننا في الحديث عن جبننا، فربما الاعتراف بما يعانيه الكاتب مثل غيره من شتات الأمر والفكر يُشكّل ريشة لحرية التفكير والبحث عن فهم رشيد عقلاني لما يجري وعن مسؤوليتنا فيه وعنه. وأخيراً لست إلا لفحة هوى تختبر قوة القلوب وهشاشة العظام وسماكة الأردية وشفافية الشبابيك وشراسة الشعر وانكساراً كلما أشتد الشتاء.
قالت لي الزميلة هتون الفاسي إن أطفالها أجواد وزين الشرف العويشق سيشتركون مع مجموعة من أطفال آخرين من عمر السادسة للعاشرة في الإعداد لملابس للشتاء لأطفال سوريا المشتتين في مخيم الزعيتر. أظن أن نشعل شمعة بأيدي أطفالنا قد يكون مجدياً لهم ولنا، أكثر من الأطفال الضحايا، بدل أن يغرقوا معنا في ظلام التخبط من وجع العماء.
في هشتاق معبّر كتبت الشاعرة سعدية مفرح: اللغة العربية هذه الأيام مستباحة كفلسطين، حائرة كمصر، مهملة كاليمن، مختطفة كالعراق، قلقة كالخليج، دامية كسوريا.. وأضيف, ومبلبلة أو متبلِّدة أو تعاني من عمى الألوان والأشكال والمسافات مثل الكتَّاب العرب من المحيط إلى الخليج.