أكثر من مائتين وخمسين ألف وظيفة فتحت للمواطنين كمحصلة أولية لنتائج حملة تصحيح أوضاع العمالة الوافدة، التي تَمَّ ترحيل أكثر من مليون وافد مخالف لأنظمة الإقامة حتَّى الآن. ولكن هل ستحل عمليات تصحيح وتنظيم سوق العمل مشكلة البطالة كأحد أهم أهدافها؟ وماذا عن فتح فرص العمل المستقبلية للداخلين لسوق العمل سنويًّا من المواطنين؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات تعتبر مفتاحًا لتوجُّهات التنمية الاقتصاديَّة المستقبلية بالمملكة، فالإنفاق الحكومي بأعلى مستوياته تاريخيًّا، وفتح الباب على نشاط اقتصادي ضخم، لكن أغلب الفرص الوظيفية التي أوجدت كانت بقطاعات المقاولات والخدمات التي ظهرت كنتيجة غير مباشرة للإنفاق الحكومي على مشروعات البنى التحتية والمرافق الخدميَّة التي ستتقلص الحاجة للتوسع بالإنفاق عليها بعد تنفيذ الجزء الأكبر منها، وبالتالي فإنَّ أيّ فرص عمل فتحت من خلال قطاع المقاولات ستنخفض مستقبلاً وهي بالأساس ليست بالفرص التي استطاعت جذب المواطنين لها نظرًا لطبيعتها المهنية غير الملائمة لهم تشغيلاً ودخلاً وتخصصًا، مما يعني أن جلّ الإنفاق الحكومي لم يصل لمرحلة تعظيم حجم الفرص الملائمة للمواطنين، والدليل أن البطالة وصلت نسبتها إلى 12بالمئة نهاية العام الماضي، وبعض التقارير تشير إلى ضعف هذا الرقم فيما لو تَمَّ الاحصاء بصورة أكثر دقة وتغطية للشرائح القادرة والمهيأة لسوق العمل.
ولم يكن تصريح نائب مدير صندوق الدولي مفاجئًا عندما حدد حجم فرص العمل المطلوب إيجادها بالاقتصاد السعودي بقرابة مليون ونصف المليون فرصة عمل خلال عقد من الان، نتيجة لعدد الداخلين الجدد لسوق العمل سنويًا، والفترة التي حددت من مسئول صندوق النقد تُعدُّ قصيرة وتتطلب جهدًا كبيرًا من الأجهزة الحكوميَّة المعنية بالشان الاقتصادي، مما يعني أن الحاجة لإعادة هيكلة القطاعات الاقتصاديَّة والقيام بمسح كامل للانظمة والتشريعات وتطويرها بما يرفع من وتيرة النمو الاقتصادي وتعزيز مستوى استغلال الموارد والخدمات بالاقتصاد لرفع حجم الاستثمارات بالقطاع الخاص الذي سيوفر فرص عمل تغطي الحاجة المستقبلية لها. فالقطاع العام لا يمكن أن يكون أكبر مولد لفرص العمل لما له من انعكاسات سلبية على الموازنة العامَّة والضغط عليها، بخلاف الترهل الموجود فيه حاليا، ومما لا يتماشى مع طبيعة الاقتصاديات الحرة التي يكون حجم التوظيف الأكبر فيها بالقطاع الخاص، ولا يمكن اغفال مايتم حاليًّا من عمل على تطوير بيئات دافعة لضخ استثمارات من القطاع الخاص تنتج فرص عمل، سواء من خلال الإنفاق الحكومي أو إنشاء المدن الاقتصاديَّة والصناعيَّة والتَّعليم الذي يستحوذ على نصيب الأسد من الموازانات العامَّة منذ سنوات. إلا أن كل ذلك لا يمكن أن يكون هو محور الحلول فقط، إِذْ لا بُدَّ من النظر للانظمة والتشريعات بمدى ملائمتها للاقتصاد حاليًّا ومستقبلاً، كما أن تأخير تفعيل أنظمة صدرت كالرهن والتمويل العقاري لا يساعد على سرعة فتح فرص العمل المأمولة، وهو النظام الذي يُتوقَّع أن يوجد مئات الآلاف من فرص العمل، خصوصًا أنَّه أخذ وقتًا طويلاً حتَّى صدر، ويضاف له نظام الشركات الذي وافق عليه مجلس الشورى منذ ثلاث سنوات تقريبًا، ولكنه لم يصدر للآن، ولا يمكن إغفال الروتين الطويل لإصدار التراخيص وغيره من الاجراءات والمعاملات الطويلة التي تعطل التنمية ونشاط الأعمال نظرًا لتأثيرها السلبي على عامل الوقت، أحد أهم عوامل الجذب الاستثماري، فطول مدد الفترات التي يتطلبها أيّ ترخيص سيحد من حجم الاستثمار، ويقلل من حجم النمو الاقتصادي، كما أن تركيبة إصدار الأنظمة تحتاج إلى إعادة نظر، فمجلس الشورى أعلى هيكليًّا من أيّ وزارة، ومن المهم أن يكون ما يخرج منه غير قابل للمراجعة والتعديل من جهاز أصغر منه إداريًا، وذلك بقصد تسريع تفعيل الانظمة والتشريعات التي يأخذ بعضها سنواطويلة لاقراره، كما أن هيكلة دور وحجم بعض الأجهزة المرتبطة بالتنمية والملف الاقتصادي مهم للمرحلة القادمة لمنع ازدواجية الصلاحيات أو الأدوار.
حل مشكلة البطالة لا يمكن أن يكون من خلال عمليات تنظيم سوق العمل والتصحيح فيه، بل من خلال فتح الآفاق الاقتصاديَّة بمختلف القطاعات وإعادة صياغة التشريعات المنظمة لها بسرعة وكفاءة عالية، وتوسيع قطاعات التمويل بشقيها الخاص والعام، كي تكون رافدًا مهمًا لتوسيع النشاط الاقتصادي بالحجم المطلوب لتوفير فرص العمل المطلوبة حاليًّا ومستقبلاً.