قبل أن أدخل في معمعة ما كتبه الكاتبان العزيزان الدكتور جاسر الحربش والأستاذ محمد المهنا أبا الخيل في هذه الجريدة ليوم الأربعاء الموافق 16-1-1435 هـ أود أن أتوقف عند العنوان الذي أوردته جريدة الوطن ليوم الاثنين الموافق14-1-1435هـ و الذي يقول - الرياض تغرق ونزاهة تتوعّد. فحينما قرأت العنوان اعتدلت في جلستي وفتحت عيوني جيداً لقراءة محتوى ذلك الخبر الصادر عن (نزاهة) والخاص بالأمطار التي هطلت على العاصمة الرياض وما نتج عنه من أضرار لأن نزاهة هي الجهة الوحيدة التي تعلّق عليها الآمال في مثل هذه الظروف الصعبة، وهي الوحيدة القادرة على لجم الفساد ومشتقاته. ولكن وآه من لكن هذه. فبعد أن أرعدت الهيئة وأزبدت حيث تعهدت كما يقول الخبر بمحاسبة الشركات المنفذة لمشاريع تصريف السيول في العاصمة الرياض وأنها ستتبع موضع القصور والخلل في تنفيذ هذه المشاريع التي تسببت في ما حدث وهذا جاء على لسان رئيس الهيئة، حيث أكَّد أنها تتابع وبشكل متواصل أي عملية هطول أمطار وما ينتج عنها من كوارث، مبيّناً أن نزاهة تتفقد المشاريع الخاصة بتصريف مياه السيول. إلى هنا والكلام جميل ومفرح للكثير من الطامحين والحالمين معاً. ولكن ما جاء في الجزء الأخير من الخبر ينسف ذلك التفاؤل، حيث قال - و استدرك الشريف بقوله لم يتم حتى الآن التأكد من أن سوء تنفيذ المشاريع كان سبباً في كوارث الرياض أول من أمس!- كل هذا الذي حدث ولم يتم التأكد بعد إذاً يبدو أن الحق على الطليان.. يا أستاذنا الفاضل المسألة ليست فيها طلاسم ولا أمور معقدة، الحكاية أن هناك أمطاراً تهطل وأرضاً لا تستطيع تصريف هذه المياه بالطرق السليمة والمنفذة في الكثير من بلدان العالم خصوصاً التي يهطل عليها أمطار موسمية وبكثافة ونحن لسنا منهم طبعاً، فبلد مثل (إيرلندا) يُقال إن معدل الأمطار فيها ما بين 5000-7000 ملم بينما لدينا لا يتجاوز المئات في السنين الماطرة فما نزل على مدينة الرياض قبل أيام وأحدث الكارثة لم يتجاوز 60 ملم. نحن ندرك أن كثيراً من الأودية والشعاب قد تم ابتلاعها وتخطيطها مما حدا بتلك الأودية البحث عن منافذ تعبر من خلالها ولكن هذا ليس بجديد فكان لا بد من إيجاد الحلول خصوصاً مع وجود التقنية وتوفر المال وهما كفيلان بحل تلك المعضلة ولكن هذا يحتاج إلى جدية في التصاميم والتنفيذ وصرامة في الإشراف.
أعود لما نحن بصدده بخصوص ما خطَّه قلم الكاتبين العزيزين، حيث كان د. الحربش معبراً عمَّا يختلج في صدور الكثير من أبناء الوطن الغيورين على هذا البلد حينما قال - لا أعتقد بوجود دولة صرفت من الأموال ما لا يُحصى للحصول على بنية تحتية جيدة مثل السعودية ولكنها لم تصل إلى نفس الجودة والنوعية التي وصلت إليها دول أخرى وبتكاليف أقل وتنفيذ أسرع وضمانات أطول - هنا سوف أقول للدكتور جاسر وهو من الكتّاب المثقلين بهموم الوطن هذا صحيح أن الدولة - رعاها الله- لم تقصّر في ضخ المليارات في سبيل البناء والتنمية وهي حريصة على ذلك بدليل ضخامة المشاريع والمبالغ الباهظة التي تضخها في سبيل ذلك. ولكن المصيبة أن تلك الأموال التي صُرفت وما زالت تُصرف لا تصل بكاملها إلى المقاول المنفذ للمشروع وإنما تصب في جيب المقاول الذي رسا عليه المشروع بحيث تبدأ عملية التدوير من مقاول إلى آخر من مقاولي الباطن الذي ليس ذنبه أن تكون تلك المشاريع التي ينفذها بتلك الرداءة والهشاشة لأن ما يصله من قيمة المشروع ربما لا يصل إلى الربع من القيمة الأصلية، وهنا تكمن المشكلة الملازمة للكثير من مشاريع الدولة. فلو تم التخلص من هذه المعضلة لانتهى جزء كبير من المشكلة، وهذا يتضح من بعض المشاريع التي تنفذها شركة أرامكو وهي نموذج للتنفيذ الدقيق والمتميز. أما ما كتبه الأستاذ أبا الخيل، فأعتقد أنه غرَّد خارج السرب وجانبه الصواب فيما خطَّه قلمه عن مشكلة الأمطار وما صاحبها، حيث إنه تحدث وأوغل في أمور هندسية لا علاقة له بها، وقد اعترف بذلك حينما قال إنه ليس مهندساً ومع ذلك أسهب في سرده حينما تحدث عن عملية التمدد والانكماش، وفروقات الحرارة، والنفاذ، وقوة الضغط، والشقوق، والتهتك، حيث ساق ذلك في محاولة منه لإبعاد شبهة الفساد وسوء التنفيذ عمّا نتج من هطول الأمطار على الرياض. والحقيقة أن مبرراته ليست مقنعة لأنه تحدث في أمور خارج تخصصه وحينما أقول إنه غرّد خارج السرب فذلك من حديثه حينما قال - إن ما دعاه إلى هذا هو انسياق معظم الناس ومنهم من لهم وزن اجتماعي وراء مقولة إن كل خلل يحدثه السيل دليل على فساد في التصميم وفساد في التنفيذ للمنشآت العامة.
مثل هذا الكلام يمكن تسويقه على مجتمع مغلق لم يسافر شرقاً وغرباً ويرى الأمطار الموسمية التي تهطل وبغزارة أحياناً في الكثير من الدول ومع ذلك فبمجرد توقف المطر لا تجد مثل تلك البحيرات في الشوارع العامة والأنفاق. عموماً إذا لم يقتنع الأستاذ أبا الخيل أن الفساد وسوء التنفيذ وضعف الرقابة على المشاريع المنفذة هو من تسبب في الكوارث التي حصلت في جدة وتبوك والرياض فأعتقد أن في ذلك مخالفة للواقع ولعل من المهم هنا أن أكثر الكتاب في جميع الصحف المحلية قد أجمعوا على هذا الخلل. يقول الكاتب الأستاذ خليل الفزيع في تغريدة - ليست الدراسة وحدها التي تتعطّل حين نزول الأمطار، بل حتى عقول الناس تتعطل عن التفكير من شدة الحيرة من تلك المليارات المعتمدة للمشاريع تصريف الأمطار - وأضيف ومع ذلك ما سلّمنا ولا غدا الشر.