البعض للأسف من جمهور الناس وخاصة من بعض النخبة في المجتمع وتحديداً النخبة الأكاديمية، يتوقعون أنّ الجامعات يجب أن تقوم بدور الصناعة لمخرجاتها البحثية، فعندما تقوم جامعة ببراءات اختراع أو أبحاث تطبيقية
تحملها هذه النخبة مسئولية عدم التطبيق الصناعي لنتائج هذه البحوث والدراسات. وهذه في رأيي سقطة لبعض الأكاديميين الذين يسوقون أنفسهم للمجتمع على حساب سوء فهم لا يوجد له مثيل في أي مجتمع من المجتمعات المتقدمة أو النامية.
هذه النخبة أشبه بمن قيل عنهم “الفارغون أكثر ضجيجاً” لأنهم يعيدون ويزيدون ويكرّرون سقطات التفكير في هذا الموضوع. لا أعرف سبباً منطقياً يجعل هذه النخبة تستعدي جامعات إذا لم تدخل الجامعة ميدان الصناعة وتصنع منتجاتها المعرفية، وكأنّ هؤلاء يضعون هدفاً جديداً للجامعات في أن تبحث وتخترع وتصنع منتجات هذه الأبحاث ويجب كذلك، وهذه هي الطامة الكبرى، أن تكون هذه المنتجات موجودة على أرفف السوبرماركتات خلال عام أو عامين، والبعض كان يريد أن يرى هذه المنتجات على الطرق وفي أيادي الاستهلاك الشعبي خلال فترة قياسية. إذن ما تريده هذه النخبة هو أن تتجاوز الجامعات دورها وتصبح مؤسسات صناعية، ويجب أن تظهر هذه المنتجات للناس ويتم استخدامها في أوقات قياسية..
والذي نعرفه جميعاً ويعرفه العالم، أنّ الجامعات تقف عند حد البحوث والدراسات وإنجازها في نتائج عملية وتطبيق، ثم تتحوّل هذه المخرجات البحثية إلى مكاتب أو شركات تسوّق هذه المخرجات إلى الصناعات والشركات ورجال الأعمال، لاستفادة الجامعة من ناحية ولإفادة الاقتصاد والمجتمع من ناحية أخرى. فهذا مكتب بجامعة هارفارد Harvard للتطوير التكنولوجي، يضع رسالته في التقريب بين الأبحاث التي يتم إنجازها بجامعة هارفارد وبين الشركاء الصناعيين، بمعنى أنّ هذا المكتب يقوم بتسويق المنتجات البحثية إلى خارج الجامعة. ولم يحدث قط وفي تاريخ أيّ جامعة أن حمّلت هذه الجامعة مسئولية إخفاق القطاع الخاص أو تعثُّر المشروعات الصناعية وسحب هذا الإخفاق إلى الجامعة. أما في حالتنا السعودية، فإنّ أيّ تعثُّر ولو افتراضي، تعزوه هذه النخبة للجامعة في حالة استثنائية من التفكير غير المنطقي في أهداف الجامعة الأساسية.
ويعمل مكتب التطوير التكنولوجي بجامعة هارفارد على توضيح رؤية الجامعة نحو هذه المنتجات ومدى نجاحها المستقبلي، لأنّ الحديث من الجامعة يعطي قوة تسويقية لمنتجاتها البحثية. وإبداء رؤية الجامعة لا يضيرها في شي حيث هي تضع تصوُّرات عملية أشبه ما تكون بخطة عمليات للمنتج، وكيف له أن يحقق النجاح. وهذا لا يحمل الجامعة أي تبعات إذا لم يخرج المشروع إلى أرض الواقع أو تعثر التمويل الاقتصادي له على سبيل المثال. وجامعة كبرى مثل جامعة إم أي تي MIT لديها مؤتمر سنوي يعرض فيه الباحثون نتائج أبحاثهم مع نخبة من الاقتصاديين وممثلي الصناعات الوطنية والدولية وشركات القطاع الخاص ومكاتب التسويق التجاري - يصل عددها في مؤتمر هذا العام إلى أكثر من مائتي شركة - بهدف تسويق المنتجات البحثية إلى الصناعة. ولم يحدث أن كان هناك خلط بين البحث وهذا دور الجامعة وبين الصناعة ودورها في تصنيع المنتجات البحثية. ولو حدث أن أخفقت جهة صناعية في صناعة لمخرجات بحثية، فالمساءلة ستكون موجهة إلى تلك الشركات المصنّعة، وليس على باحثي MIT فدورهم هو البحث فقط. ونجاح أي جامعة هو في نقل البحوث من إدراج أعضاء هيئة التدريس ومن أوعية النشر العلمي إلى المجالات الصناعية الممكنة للاستفادة منها في الاقتصاد الوطني وللمجتمع كمنتجات أو خدمات.
وتعمل بعض الجامعات على التقدم خطوة إلى الأمام بتهيئة البيئة التصنيعية المناسبة، حيث لا يخفى دور جامعة ستانفورد على سبيل المثال في دعم السيلكون فالي الموجود بمكان حول الجامعة، كما أن كثيراً من منتجاتها البحثية يتم تسويقها مع شركات السيلكون فالي، إضافة إلى أنّ خريجي جامعة ستانفورد مطلوبون للعمل في هذه الصناعات ولدى الشركات هناك. وإضافة إلى ستانفورد ودورها في صناعات السيلكون فالي، توجد مشروعات سيلكون فالي في دول أخرى مثل إسرائيل، حيث جمعت عدداً من الصناعات المتقدمة Hi Tec في “سيلكون وادي” وكذلك مشروعات أخرى مماثلة في سنغافورة والهند وغيرها من الأماكن التي تقدم بيئة تحفيزية للصناعات، وجامعة الملك سعود من خلال ذراعها التصنيعية “وادي الرياض للتقنية” تحاول أن تنافس على صعيد تقريب البحوث العلمية من التطبيقات الصناعية.
وعوداً على بدء، فنصيحتي للباحثين في الجامعات أن يواصلوا أبحاثهم ومشاركاتهم العلمية، دون أدنى التفات للفارغين ولأصحاب الضجيج الإعلامي، الذين ليس لهم هدف سوى تعطيل عجلة البحث العلمي في جامعاتنا، ونحمد الله أنّ أمورهم قد انكشفت للرأي العام فعددهم لا يتعدّى العشرة وهم يصفقون لبعضهم لتدوير الفكر المناهض للبحث والتطوير في الجامعات. والجميع يحفظ هذه القائمة بأسمائها وبجدليّاتها وأهدافها، فأقاويلهم مكرورة لا تقدم أو تؤخر، ولو استمعنا لهم وحققنا أهدافهم لكنا قد أقفلنا جامعاتنا من سنوات، ولحوّلناها إلى منتديات لتويتر أو مجالس للفيسبوك لصولات وجولات فاقدي المنطق والرؤية نحو المستقبل. لقد تجاوزنا بحوث “تفخيم الراء وترقيقها” وانطلقت جامعاتنا والحمد لله بفضل الرؤية الوطنية المخلصة لقائد التنمية الوطنية عبد الله بن عبد العزيز ومن يسير معه من قيادات التعليم العالي، إلى آفاق جديدة غير مسبوقة، ويكفي أن النهضة التعليمية أو ما يمكن أن نطلق عليه الثورة التعليمية في المملكة أزعجت دولاً حولنا، وإسرائيل تفكر فيما ستؤول إليه الجامعات السعودية بفضل الدعم الكبير الذي قدمته الدولة وبفضل الحراك التطويري في الجامعات.. ودول الجوار استرعت اهتمامها القفزات النوعية في التعليم العالي في المملكة. الجميع يبتهج، والكثير يقدّر ولكن والحمد لله انّ القلّة القليلة هي التي تستعدي هذه النجاحات.