كانت البلاد - قبل فاجعة الحادي عشر من سبتمبر ومآسي إرهاب الداخل - أسيرة حالة لا مبالغة في وصفها بحالة (طوارئ) دينية. كانت المنابر تعج بالخطب والمواعظ الناقمة على أحوال المسلمين في كل مكان، والساخطة من المؤامرات الغربية المزعومة، والمحذرة من ضياع الدعوة المحمدية بالكلية، والداعية إلى الجهاد والتضحية في كل مكان إلا في ميادين العمل الوطني، فالأمة قبل الأم، والوطن “وثن” حطموه تقرباً إلى الله!.
كان منطقاً غريباً شاءت قلة مؤثرة استغلاله لإعادة الأمة الإسلامية إلى عصور (وسطى)، عصور تتحول فيها قيم الجهاد المحمدي الخالدة من جهاد في بناء الدولة الإسلامية القوية بعقيدتها وبأخذها بأسباب التمكين السياسي والاقتصادي والتنموي إلى جهاد في هدم الدولة الإسلامية (المثال) بغية إقامة دولة (غول) شريعتها التكفير ومنطقها البغي وسياستها الغدر والقطيعة.
وفي خضم حالة الطوارئ تلك، اعتلت ثلة من (شباب الدعوة) المنابر بحماسة كبيرة، فكررت المحفوظ دون تبصر، متأثرين بعلماء الإخوان، والمنظّرين للتكفير والتفجير من متطرفي المرحلة، ونادت بالجهاد في ساحات الحرب شرقاً وغرباً، كان الحماس الدعوي الإسلامي ينطلق من أجواء “الصحوة” والتي “ديّنت” المشاعر، ثم “سيّستها” وفي نهاية المطاف “عسكرتها” وأبعدت المتدين “اسمياً” عن إنسانيته وأغرقته في الدموية، فجاءت الفتاوى التكفيرية، والاستفتاءات السطحية، وحالة الرهاب من كل شيء، من علاقة المرء بأبيه، وأهله، وقبيلته، ومجتمعه، وانماعت (الوطنية) فخسر (الوطن) عشرين عاماً أو يزيد من فرص التنمية والبناء.
وقد خرج علينا برنامج الزميل الكبير داوود الشريان ليذكرنا بما ظننا أنا نسيناه، ضحايا حالة الطوارئ تلك: أولهم وليد السناني، الذي تعلم صنعة التكفير وأخلص لها. علمه شيخه أن العقيدة السمحاء التي عرفها جمهور الأمة منذ قديم هي - في حقيقتها - عقيدة كره وانتقام لا يكفر بها إلا هالك، فقاده جهله إلى خسارة كل شيء: حريته وعقله، وحرية ابنه الذي شاركه قيد السجن ولا يزال، وسعادة فلذات كبده الذي حرمهم خالد (الأب) من حقهم في التعليم والحياة الهانئة الكريمة، باسم الوهم الذي باعه عليه سادة التطرف. وثانيهم خالد الفراج، الذي كان الثمن الذي دفعه لاستضافته زمرة من أرباب التكفير والإرهاب جسد أباه - عليه شآبيب الرحمة - ممزقاً برصاص الغدر الذي آواه والله وحده يعلم نواياه ومقاصده.
وبعد أن خرجت هذه النماذج المحزنة من ردون السجن إلى مدارك الملأ، وسقطت بظهورها دعاوى الحرية الزائفة التي استهدفت النيل من وزارة الداخلية وبرنامجها (الوطني) لمكافحة الإرهاب وأظهرت كذب المؤلبين حول تعامل الأجهزة المختصة مع الموقوفين في السجون، واتضح أنهم يُعاملون بكل إنسانية، بل بتوفير وسائل رفاهية لا يتخيل عاقل أنها موجودة في سجن، يبقى السؤال المتجدد، أين هم المجرمون (الحقيقيون) الذين قادوا هؤلاء الضحايا إلى مهاوي التطرف والإرهاب؟! أين هم شباب الأمس وشيوخ اليوم من أرباب منابر الضلال الذين تسببوا في خسارة الوطن أبناءً أبرياء وعقوداً من فرص التنمية والبناء الضائعة؟! هل من المقبول أن يصفد الضحايا ويبقى المجرمون أحراراً، يرتدون اليوم عباءات الإصلاح ويكنزون الأموال من كل طريق، وكل ذلك باسم الدعوة الإسلامية التي كانوا سبباً في تشويهها وارتكاب جرائم لا تغتفر في حقها؟!
إن تجربة البلاد مع دعاوى التكفير والضلال لم تنته بعد، ولن تنتهي ما دامت الأفهام القاصرة قادرة على إلباس التطرف عباءة الدين. وستخرج في يوم من الأيام عقول تجدد خطاب حالة الطوارئ الدينية تلك، وتدعو لإقامة وطن لا يشبه وطننا هذا.
وقبل أن يتكرر المشهد من جديد، وقبل أن تُنسى دماء الشهداء ودموع الأبرياء، يكون من الواجب علينا براً بالضحايا، ووفاءً للوطن، أن نقدم أرباب دعاوى الضلال والتكفير (السابقين) إلى محكمة الرأي العام، ندعوهم فيها لإعلان (التوبة) جهراً أمام ضحاياهم القابعين في السجون، وندعوهم فيها إلى طلب (الصفح) جهراً من أسر الشهداء - رحمهم الله - الذين مضوا في ساحات الجهاد (الحقة) ذوداً عن العقيدة المحمدية والوطن الذي بنيت ركائزه عليها، ومن بعد ذلك كله - ندعوهم إلى طلب (العفو) جهراً من الوطن الذي أساؤوا إليه كثيرا.
وما لم يتحقق ذلك، فلن تكتمل للفكر الضال (توبة)، وسيظل شبحاً مخيفاً يؤرق المضاجع كل يوم.
أخشى أن نقول ذات يوم “قضينا على الإرهاب ولم نقض على الإرهابيين”!