هي المرأة: وراء كل عظيم.. تعالوا معي لنمسح غبار الزمن عن حضارة فكرية عفا عليها الزمن واندثرت تحت تراب التقدم ودعوى التكنولوجيا لنعود إلى جذور المسلمين بعيداً عن التصنع والتكلف والمادية -التي طمست الكثير من معالم الروح-.
أدهشت هذه الحضارة العالم بأسره وبلغت أوج التقدم الفكري الذي لا يختلف عليه اثنان ولو أمعنا النظر لوجدنا ذلك الفكر من صميم الكتاب والسنة التي حررت العقول والنفوس ونادت بإقامة الموازين الكونية الحق والحب والخير وتنامت بميزان العدل الذي جمع شتات الأمم تساوى فيها الأمير والفقير والأبيض والأسود يحكمه ميزان التقوى تخلص فيه المرء من العبودية النكراء إلى حرية العقل والتفكير وارتبط برب واحد بلا خوف على حياة ولا خشية على رزق ولا وجل حتى أدرك الإنسان بقية حقوقه وأخذ ينادي بشعار الحرية والمساواة، وأخذت المرأة وضعها الطبيعي بعدالة فاقت حدود آمالها، بل تعدت ذلك بكثير بعد أن كانت عاراً يوأده الرجل دون حسيب ولا رقيب قَال تَعَالَى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (58-59 سورة النحل).
ومع مرور الزمن أخذت المرأة تنادي بالمساواة لعدم إدراكها بحقوقها في الإسلام، ولو أدركت حقوقها لوجدت أنه لا وجه للمقارنة بينهما، شتان بين الثرى والثريا، فقد وهب الله تعالى المرأة سمات شخصية لا تحتمل المساواة، فأعطاها حقوقها وفق ما يناسب طبيعتها البشرية، وجاء معلم البشرية -عليه السلام- ليؤكد تلك الحقوق ويطبقها على أرض الواقع، وسار خلفاؤه يحذون حذوه مقدرين وصاياه وحافظين لها، جاعلين تلك الوصايا نصب أعينهم فلم يجزعوا لقول القائلين أو نقد الحاسدين المفسدين ولم تتأثر رجولتهم بإعطاء المرأة حقوقها، بل أصبحت المرأة مع الرجل وجهين لعملة واحدة، حتى حكم هؤلاء الرجال العالم بأسره لتوافق الآراء ووحدة الهدف.
والآن أصبحت نظرة الرجل للمرأة أنها الزوجة التي يجب عليها ما لا يجب، فهو صاحب الكلمة الأولى المتفرد بالرأي صاحب القوامة والوقار الآمر الناهي له الكلمة الأولى والأخيرة دون النظر إلى دقيق معاني المرأة، حيث إن المرأة هي أمك أولاً التي أفرد لها الإسلام مساحات واسعة بالقرآن الكريم والسنة النبوية حتى وضع الجنة تحت أقدامها، ثم إلى بقية حقوقها امرأة أختاً وزوجة وابنة، اتهمنا الماضي بالرجعية! والقدامة! والحزم! والشدة! وعدم الرضى عن ذلك الفكر المتحجر كما يظن البعض، من هنا أردت أن أكشف صفحات الماضي الحقيقية وأقابله بالحاضر المرير وأنصف ذلك الماضي من بصمات الاتهام التي وجهت نحوهم ليدركوا مدى الحرية التي كانت تعيشها المرأة عندما كان يطبق الدين على الوجه الصحيح، وقد تناولت بدايات الإسلام ونساء ملكات تمتعن بحرية لم يشهد لها التاريخ مثيل، إلى عهد قريب كان آباؤنا يتفاخرون بأمهاتهم حتى تنادوا بأسمائهن وافتخروا بأسماء أخواتهم فعندما تنادي رجلاً تناديه بأحب الأسماء إليه فهو فخره وعزه فتقول أخو فلانة، وهنا أترك لكم القرار بالتعبير عن المستجدات وما هي الأسباب التي تقف وراء ذلك أهي الحداثة؟ وتلك القدامة؟ أم ماذا؟
عندما كانت ثقة الرجل بالمرأة رسمت من خلالها شخصيتها القوية وثقتها بنفسها ومكانتها عند الرجل، تقري الضيف وتنطلق بحرية تقيدها الثقة النابعة من صميم الرجل ويعصمها الاحترام لتلك الثقة، يتخللها الكلمات الجزلة والعبارات البليغة، مطعمة بشعر أو نثر، تقول رأيها دون قيود، وها هو الرجل دون خوف عليها ولا قلق فخورا بها رافعا رأسه فما الذي استجد الآن؟ أهي انعكاسات التقدم والرقي أم الغزو الفكري الذي غرس الشك ليقوض العلاقات الفردية مترتباً عليها تقويض المجتمع قابلوا صورة الماضي القريب بالحاضر الحالي، علماً بأن المرأة هي المرأة والرجل هو الرجل.
تربت السيدة عائشة -رضي الله عنها- في حجر رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- على مكارم الأخلاق النبوية وترك لها الرسول -صلى الله عليه وسلم- حرية كافية لأن تكون معلمة لنساء المسلمين، وبعد وفاة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أصبحت مرجعاً لكبار الصحابة يأخذون عنها بنهم دون النظر إلى أنها امرأة، بل يقولون قالت السيدة عائشة، وحدثتنا السيدة، وذكرت السيدة عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-، بايع الرسول عليه السلام النساء ووصى بهن خيراً وشاركن معه في غزواته فارسات، يحملن السيف في سبيل الله، أمثال أم جميل، وممرضات أمثال كعيبة، وشاعرات ولا أدل على ذلك من الخنساء الشاعرة التي مثلت المرأة ثقافة وفكراً يشجعها الرسول ويقول:- «هي هي يا خناس»، خرجت النساء مع الرجال لتأسيس مجتمع إسلامي مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يداً بيد وعملن بجميع المهن التي تخدم المجتمع وساهمن برؤوس أموال وضعت في سبيل الدعوة إلى الله في سبيل الله أمثال السيدة خديجة ملكة الجزيرة العربية الشريفة النبيلة، تلك المرأة التي عجزت الأقلام أن تفيها حقها بوقوفها إلى جوار الرسول -صلى الله عليه وسلم- ابنة العز والدلال تبذل كل ما لها لصالح الدعوة وتعاني مرارة الجوع، وترى ابنتها فاطمة تتضور جوعاً بحصار الشعب حتى ماتت متأثرة بمرض حصده ذلك الحصار! وهذه عائشة زوجة رسول الأمة وملك الجزيرة العربية تعيش في غرفة لا تتسع لأكثر من اثنين منتظرة فرجاً قريباً لأمة الإسلام لتبني جيلاً جديداً يتمتع بحرية الإسلام وكرامته وغيرهن الكثيرات ضربن المثل في التفاني والاجتهاد والعطاء والوفاء.
وضرب الخلفاء بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى باحترام المرأة ومنحها حقوقها كما جاء في الكتاب والسنة وتابعن مسيرتهن إلى جوار الرجل جنباً إلى جنب، فهذه جويرية ابنة أبي سفيان شاركت في معركة اليرموك في بلاد الشام مع زوجها سنة 15هـ-638م ومن نفوذها جعل لها كاتباً ومولى وكذلك عاتكة ابنة يزيد بن معاوية زوجة الخليفة عبدالملك ترافق زوجها في جميع غزواته وكانت ذات نفوذ كبير، بل إن النساء تمتعن بحقوقهن حتى بلغ صداق المرأة مبالغ عظيمة لتهب نفسها لزوجها، فقد صدق معاوية بن أبي سفيان، ميسون بنت أبي بحدل الشاعرة البدوية الفصيحة البليغة عشرون ألف درهم، وأصبحت كلمتها نافذة حتى أخذت البيعة لابنها يزيد ولم يخطُ معاوية خطوة إلا باستشارتها لثقته العالية برأيها، كونوا معي هذا معاااااوية بن أبي سفيان سيد قريش، وسيد بني أمية، يستشير ميسون في أدق الأمور، فعند اختياره لأي امرأة يرسل عليها ميسون لتنظر إليها وتعطيه رأيها.
وخطب الحجاااااج بن يوسف الثقفي صاحب الرؤوس اليانعة التي قطفها بجبروته وقوته صدق أم كلثوم بنت عبدالله بن جعفر مليوني ونصف المليون درهم، ووصلت المرأة بنفوذها السياسي التدخل بالعزل والتولية فعاتكة بنت يزيد طلبت من زوجها أن يجعل ولاية العهد بولدها على طول المدى حتى أصبحت لا تحتجب عن اثني عشر خليفة جميعهم محارمها، وقد كتب عمر بن عبدالعزيز في عهده هذه الوصية لتطبق وقد طبقت، وكان هشام بن عبدالملك لا يتخذ قراراً إلا بمشورة فاطمة ابنة عاتكة بنت يزيد.
وكانت هند بنت المهلب بن أبي صفرة زوجة الحجاج ذات نفوذ لقوة شخصيتها وثقافتها وفصاحتها وجرأتها فقد واجهت الخليفة عمر بن عبدالعزيز حينما سجن أخاها فسألته عن السبب فقال:- (تخوفت أن يشق عصا المسلمين) فقالت:- العقوبة بعد الذنب أم قبل؟؟؟ فأخرج عمر أخاها من السجن على الفور لإدراكه قوة حجتها وكان لها أقوال اتُخذت أمثالاً عبر التاريخ.
ولأم البنين أخت الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز باع كبير من الحرية استخدمتها بأعمال البر والإحسان وخدمة المجتمع الإسلامي وتقديم الهبات والعطايا ولم يمنعها من أي شيء تقدم عليه. حتى تمتعن نساء العصر الأموي بحرية كبيرة تحسد عليها المرأة المسلمة في حين أن النساء الغربيات كن في عصر الظلمات والاضطهاد فمارسن السياسة والاقتصاد والثقافة حتى بنيت حضارة امتدت إلى أقصى بقاع الأرض فكانوا هم أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة في ذلك الزمان.
أما نساء العصر العباسي من حرائر وجوار مارسن العمل السياسي حتى أصبحت القرارات تصدر عنهن وأوامرهن مجابة لا يرد لهن طلب، حتى وضعن شروطا قاسية للزواج، فقد اشترطت أم سلمة زوجة أبو العباس السفاح عليه ألا يتزوج عليها ولا يتسرى وكان قرارها نافذاً، وكذلك أم موسى الحميرية اشترطت على أبو جعفر المنصور ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، وقد فعل وبقي أبو جعفر عشرين عاماً وهو كذلك حتى توفيت أم موسى ويجب ألا ننسى أن هؤلاء عظماء وأباطرة خضع لهم الشرق والغرب.
وغضب الخليفة الهادي على زوجته لبابة بنت جعفر بن أبي جعفر، ولم يستطع أن يمارس عمله دون رضاها، فعندما خرج إلى أصحابه وصفوه بانتفاخ وجنتيه وكأنه الجمل الهائج وبقي على ذلك حتى رضيت عن صاحب الجلالة.
أما الإمبراطورة الخيزران زوجة المهدي وأم الهادي والرشيد فبلغت مبلغاً عظيماً حتى أصبحت المواكب تنزل إليها، فهي الآمرة الناهية حتى عودها المهدي بتنفيذ جميع قراراتها ولم يرفض لها طلباً وأصبحت القرارات تصدر عنها والكتاب يكتبون إليها ولم يمنعها المهدي من ذلك، ولم يقل إنها تدخلت في أموره أو أنها امرأة والواجب أن تقف على الحياد وعدم التدخل بشؤون الرجال.
وكذلك زبيدة زوجة الرشيد بنت أخت الخيزران أصبح يتحدث بها البلاد والعباد وخاصة خدمتها للحرمين بإجراء ماء زمزم، وسميت عين زبيدة غير أعمال الخير والبر ورصف طرق الحجاج نظراً لنفوذها السياسي والاقتصادي وقد اهتمت بالثقافة، فقد قيل عنها إن لديها مئة جارية يتعلمن القرآن وكان دويهن بالقراءة كدوي النحل، غير أنها تتمتع بلباقة لغوية غلبت بها الشعراء والخطباء ولها مواقف عدة تظهر نباهتها وفصاحتها.
هؤلاء الخلفاء هم أبناء عمومة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وترك تلك الحرية للنساء ليس ضعفاً وإنما هو ثقة بأنفسهم، هؤلاء الرجال الذين كانوا يحكمون الأرض فعندما تمرد إمبراطور الروم نقفور خاطبه الرشيد بكل ثقة بكلب الروم، لعظم شأنه، وقد رضخ لدفع الجزية، لم يثنهم مشاطرة المرأة العمل ولم يخجلهم أسماؤهن أو أعمالهن، أعطوا نساءهم حرية مطلقة، ولم يبالوا، قالت الخيزران وعملت زبيدة ونشدت علية أخت الرشيد التي لا يطرب لغيرها، وأصبح مجلسه لا يخلى من أخته العباسة الشاعرة حتى أصبح لا يستظرف مجلسه دونها، فقد كن يحطن به من كل جال.
شاركن الخلفاء حاكمات مثقفات حكيمات، هذا هو فكر الرشيد، وهذا هو فكر المهدي الأباطرة المسلمين، حقا نحن الآن نحتاج إلى أمثالهم وتصرخ كل امرأة لتناديهم من جديد فهل للتاريخ عوده؟!!!.
تزوج المأمون بوران ابنة وزيره الحسن بن سهل، وبذل لذلك الزواج ما يفوق ميزانية الدولة احتراما لعلاقات سياسية وتقديرا للمرأة التي ارتبط بها حتى أصبح حديث العصر للبذخ الطائل الذي صرف في هذا العرس السياسي، ولم يخالف لها رأيا.. وتزوج المعتضد قطر الندى ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون، وهي من ذوات المال والجاه وبلغت عنده مبلغا لم يبلغه أحد.. وتزوج المهدي بمؤنسة الجارية الرومية ولم يخالف لها رأياً حتى في التولية والعزل، وتزوج مكنونة حتى قالت عنها الخيزران: ما ملك أمه أغلظ علي منها لشدة نفوذها عليه.
وتزوج الرشيد الجارية عنان الشاعرة التي وضع لها كرسياً في مجلسه ولا يعصي لها أمراً.. وتزوج الأمين نظم أم ولده موسى التي لا يخالفها بأمر حتى أخذت البيعة منه لابنها موسى .. وتزوج المعتصم شجاع أم الخليفة المتوكل وهي جارية تركية حتى أصبحت تمون على بيت المال وتنفق منه وفق ما تراه مناسباً.
وتزوج المتوكل فضل وبنان ومحبوبة وجميعهن شاعرات مجيدات ولم يمنعهن من صياغة الألحان، وقد كانت فضل من ذوات الخط الجميل حتى أصبحت كاتبة لدى الخليفة ولم يمنعها كونها امرأة.
وتزوج المتوكل قبيحة.. وهذا الاسم من الأضداد والدلال فهي جارية رومية على قدر عال من الجمال والوسامة وهي أم الخليفة المعتز التي كان لها نفوذ اقتصادي لم يشهد له التاريخ مثيلا حتى فاقت ميزانيتها ميزانية الدولة وهي الآمرة الناهية في قصر الحكم حتى لقبت بالسيدة، وكذلك السيدة شغب زوجة الخليفة المعتضد أم الخليفة المقتدر كانت الآمرة الناهية حتى لقبت أيضا بالسيدة لقوة نفوذها السياسي والاقتصادي متحكمة بالتولية والعزل، فقد أقعدت الكهرمانة (ثمل) للقضاء -أي أنها قاضية لفض- الخصومات بين الناس).
لم يثن هؤلاء الرجال كلمة امرأة تحكم أو تستبد أو تبدي رأيا أو يستحي من ذلك فهذا فيض من غيض ويجب أن ننظر بعين الاعتبار أن المرأة هي النصف الآخر لكن لها من النصف الثاني نصيب الأسد في ترك الأثر الحقيقي على المجتمع، يعني أنها تمثل ثلاثة أرباع الحياة كما يمثل الماء ثلاثة أرباع الجسد، فالتقاليد والعادات العمياء لا تمثل الدين فهناك كتاب وسنة زاح كثيرا من هذه التقاليد البالية نأخذ ما يناسب الدين ونطرح ما يخالفه، فكلما أعطيت المرأة أخذت منها أكثر مما أعطيت، فهي دائما تسعى لنجاحك وتحقيق طموحك ووصولك بتهيئة جميع الأجواء لتكون بالمقدمة، وكل ذلك على حساب نفسها ووقتها فاجعلها وساما على صدرك تجعلك تاجاً على رأسها، وعندما تشاركها رأيا ثق تماما أنك تكبر بعينها وتكبرك وتوقرك بعين الآخرين فرأينا يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ، وأغبياء من يتمسكون بآرائهم، وقوة شخصيتك تكمن بقدرتك على الحوار والنقاش الفعال والأخذ بالأنسب والأصلح والأمثل، وما خاب من استشار، ليس الرجولة بفرض الرأي وإنما باختيار الرأي المناسب، وأختم «وراء كل عظيم امرأة.