أثناء الحرب الباردة كانت الدولتان العظميان (أمريكا والاتحاد السوفييتي) تتدخلان مباشرة قبل انهيار النظام الحليف لها.. كاجتياح السوفييت لتشيكوسلوفاكيا لوقف ربيع براغ (1968) وتدخل أمريكا في تشيلي (1973).. وكان آخرها دخول السوفييت في أفغانستان عام 1978..
الحرب الباردة انتهت، وأصبح التدخل المباشر لحماية نظام دولة مستبعداً نتيجة عدم التهديد المباشر من الخصم العالمي، فضلاً عن الخسائر الفادحة كما حصل لأمريكا بفيتنام أو للسوفييت بأفغانستان. النظام الدولي السابق وفَّر نوعاً من الاستقرار العالمي وبقاء الدول الهشة، لكنه كان استقراراً ظاهرياُ فيما العفن كان ينخر من الداخل، لذا اندلع في بعض الدول نزاع داخلي عنيف أو ثورات، لم تستطع إدارتها مؤسسات الدولة؛ ليطلق عليها الدولة الفاشلة.
انطلق مصطلح “الدولة الفاشلة” مدوياً بعد هجمات 11 سبتمبر 2001م، وانتبه الغرب إلى الدول “الفاشلة” التي تشكل ملجأ ومركز تدريب للحركات المتطرفة، وكان في مقدمة الأنظار أفغانستان والصومال. لم يعد فشل هذه الدول منحصراً فيها بل صار يهدد الاستقرار العالمي مع عولمة الاقتصاد ونظم المعلومات والأمن الدولي المتشابك، ويمكن أن يكون له تداعيات خطيرة ليس فقط لجيران الدولة، ولكن أيضاً للدول الأخرى البعيدة.
كيف نعرِّف الدولة الفاشلة؟ لا يوجد توافق عام في الآراء، إنما يمكن من خلال الأدبيات السياسية اعتبار الدولة فاشلة إذا أخفقت في توفير بعض الشروط الأساسية الداخلية (الأمن، العدالة، الخدمات البلدية والصحية، التعليم، التنمية) أو الخارجية (حكومة ذات سيادة). وكثيراً ما يستخدم تعريف دولة فاشلة وفقا لمركز أبحاث صندوق السلام بواشنطن لتوصيف حالة مع الخصائص التالية: فقدان السيطرة على أراضيها أو عدم احتكار الاستخدام المشروع للقوة؛ تآكل السلطة الشرعية لاتخاذ القرارات؛ عدم القدرة على توفير الخدمات العامة؛ عدم القدرة على التفاعل مع الدول الأخرى كعضو كامل العضوية في المجتمع الدولي.
وفقاً لهذه الخصائص، دأب صندوق السلام منذ عام 2005 على نشر مقياسه السنوي للدول الفاشلة بالاشتراك مع الفورين بولسي، بترتيب كافة دول العالم من خلال مقياس درجات الفشل. واستمرارية هذا المقياس لمدة تسع سنوات أعطته شهرة عالمية إضافة إلى شموليته التي تغطي كافة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. والصندوق يصف نفسه كمؤسسة بحثية تعليمية غير حكومية وغير ربحية تنتج بحوثاً مستقلة تعمل على “منع الصراعات العنيفة وتعزيز الأمن المستدام”.
في تقرير هذه السنة، بدأ ترتيب المؤشر باللون الأحمر الغامق الذي كان للأربع دول الأكثر فشلاً بالعالم، وهي الصومال ثم الكونجو فالسودان وجنوبه. ثم اللون الأحمر القاني لاثتني عشرة دولة ترتيب دول الشرق الأوسط منها كالتالي: اليمن (ترتيبها العالمي 6)، أفغانستان (ترتيبها 7)، العراق (11)، باكستان (13). اللون الأحمر العادي كان في مقدمته سوريا (ترتيبها 21) وبعدها بعدة نقاط أتت مصر (34) فإيران (37)، ثم: لبنان (46)، ليبيا (54)، إسرائيل (67). أما اللون البرتقالي الأقل فشلاً فتأتي الجزائر (73) ثم تونس (83)، فيما كان الأردن في الترتيب 87 والمغرب 93، أما دول الخليج العربية فترتيبها بعد المائة.. وكالعادة كانت الدول الاسكندينافية في الترتيب الأخير..
جميع الدول الخمس والعشرين الأولى في الفشل هي دول شرق أوسطية وأفريقية باستثناء كوريا الشمالية (ترتيبها 23). وعلى مستوى العالم العربي وقعت كل الجمهوريات العربية في مقدمة العشر الأوائل في الفشل، ولا يوجد بينها أية ملكية! ويلاحظ هنا أن ثلاث جمهوريات من هذه العشر هي دول نفطية: (العراق، ليبيا، الجزائر)، بينما ملكيتان غير نفطيتين (الأردن والمغرب) خارج العشرة.
ورغم أن الدول البعيدة نسبياً عن المقدمة يعني أنها أقل فشلاً، فلا ينبغي عليها أن تطمئن لأن هناك علامات مثيرة للقلق حسبما يقول التقرير. بالمقابل لا يعني اتسام دولة بالفشل ضرورة اتسامها بكل المؤشرات بدرجة عالية، ولكنّ لكل دولة نمطاً، بحيث يوجد دول تشمل بعض هذه المؤشرات دون الأخرى، وبعض الدول تشمل كل هذه المؤشرات ولكن بدرجات متفاوتة، أي لكل مؤشر حدته.
يعتمد القياس على تجميع ملايين الأخبار والتقارير المنشورة يوميًّا في أنحاء العالم حول الدول محل القياس (178 دولة) كقاعدة بيانات أصلية، ثم تتم فلترتها إلكترونياً في قالب ذا صلة للجوانب المدروسة. هذه الجوانب تشمل 12 عاملاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، لكل عامل عشر نقاط، والتي تنقسم بدورها إلى أكثر من 100 مؤشر فرعي دال عليها. مثلاً الصومال الأولى حصلت على 114 نقطة، فيما فنلندا الأخيرة حصلت على 18 من 120 نقطة من نقاط الفشل.
هذا المقياس هو أداة مهمة ليس فقط في التنبيه على الضغوط العادية المكشوفة التي تتعرض لها كافة الدول، ولكن أيضا في تحديد متى تدفع تلك الضغوط الدولة نحو حافة الفشل عبر تسليط الضوء على القضايا ذات الصلة بمقدمات الفشل. فالمؤشر يقيِّم المخاطر واحتمال ظهور الصراع ويضعها في متناول صانعي السياسات والنخب وعامة الجمهور. فقيمته الأساسية كإنذار مبكر يتوقع الكوارث التي قد لا تظهر على السطح.. “صناع القرار يحتاجون إلى الوصول إلى هذا النوع من المعلومات لتنفيذ سياسات فعالة.” حسبما يذكر التقرير.
إلا أن هناك من يشكك بطريقة انتشار مصطلح “دولة فاشلة” لكونها تعسفية وتميل للإثارة. وقد جادل ويليام إيسترلي ولورا فريشي بأن مفهوم الدولة الفاشلة “ليس لديه تعريف متماسك”، ويخدم أهداف الغرب للتدخل العسكري. الكاتب البريطاني أناتول ليفن ميَّز بين “الفشل الفعلى والفشل” لدول أفريقيا جنوب الصحراء مع دول جنوب آسيا.. فعلى الرغم من أنه يقر بأن باكستان يمكن أن تعتبر “فاشلة” بالمقارنة مع الدول الصناعية في أوروبا الغربية، فهو ينتقد استخدام المحللين للحرب في شمال غرب باكستان كعلامة دامغة لباكستان بأنها “فاشلة”، في حين لا يفعل الشيء نفسه بالنسبة للأكثر خطورة كحركة ناكساليت في الهند أو الحرب الأهلية في سريلانكا؛ موحياً بأن التركيز على باكستان هدفه تبرير التدخل الغربي.
في كل الأحوال لا يمكن إزالة الشكوك في تقارير صندوق السلام ومركزه واشنطن! وسيظل مفهوم الدولة الفاشلة له طابع انتقائي وخاضع للنظرة السياسية. أما الأسس التي بنى عليها صندوق السلام ترتيبه، ومناقشة أوضاع الدول العربية “الفاشلة”، وأسباب الترتيب المتقدم لفشل الجمهوريات العربية قبل ملكياتها فسيكون موضوع المقال القادم.