سرني كثيراً المقال المنشور بالعدد 14980، وعنوانه (لكي لا نخسر الحرب ضد الفساد)، للأستاذ فهد بن عبدالله العجلان، في زاويته عاجل للأهمية؛ إذ جودة الطرح ورصانة الأسلوب وعمق الرؤية وصدق الوطنية، فألفيته جديراً بالاهتمام ومشاركة الأقلام تفاعلاً مع (نزاهة) في منازلاتها الميدانية التشخيصية لأدواء الفساد في أجساد قطاعاتنا الحكومية.
ومن وجهة نظري، إن هذا الداء العضال سببه الرئيس ضعف الوازع الديني، وأعراضه المصاحبة قد لا تظهر جلياً سوى في حالتين، هما:
الأولى: ضعف الإدارة: فالقوة والضعف صفتان فطريتان منعوتتان في القرآن والسنة، كما في الآية الكريمة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، وفي الحديث «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف». ومن هنا يتضح أن الخيرية تتجلى في القوة والأمانة.
أما الحالية الثانية: (المناطقية) فالمسؤول الأول في الإدارة أو الوزارة عندما تسند المواقع المفصلية في إدارته لأبناء منطقته فإنه بذلك يبني طوقاً إدارياً متناسقاً، يصعب على المواطن والمراجع اجتيازه أو تسوره للوصول إلى هرم المسؤولية لإبداء متطلباته أو ملاحظاته، وهذه من سلبيات تلك النظرة الإدارية المجافية لأبجديات مفاهيم الإدارات العصرية الحديثة، فضلاً عن إتاحتها فرصة إطلالة الفساد في أروقة الإدارة؛ لتلعب الواسطة المقيتة أدوارها، وتؤتي استغلالات نفوذ الوظيفة ثمارها! وتلقي إساءة استخدام السلطة بظلالها على كواليس هذا الطوق الإداري، وما يرادف ذلك من هضم الحقوق والتلاعب بالأنظمة، ويقابله محاربة من يحاول الإفصاح بالحقائق التي تهز شباك المتلاعبين.
وصدق كاتبنا القدير حين أشار في معرض مقاله بما نصه: «الحقيقة الأهم التي أقر بها كثير من مسؤولي مكافحة الفساد في كثير من دول العالم هي أن الفاسدين لا يكتفون غالباً بفسادهم بقدر اهتمامهم بمواجهة وحرب كل من يسعى إلى تعرية أو مواجهة فسادهم». ومما يطمئن النفوس أن مطية الفساد الواهنة تخور قواها أمام المجابهة الصامدة من رجال (نزاهة) الذين برزت جهودهم المشهودة المحمودة بالوقوف على حالات كثيرة من أوجه الفساد في عدد من القطاعات، ونتطلع إلى المزيد من الإنجازات خلال توجيه البوصلة صوب ما يطفو على السطح من ملاحظات أو مؤشرات، قد تقود إلى مكامن الفساد كون شعاره التواري والتخفي والحذر. ومعلوم أن الإشارة تقوم مقام العبارة، والتلميح أقوى من التصريح، وكلاهما من السبل الفاعلة للوقاية من الفساد.
ومن هذا المنطلق يطيب لي إيراد الإيماءات الآتية:
1 - لقد بات من الواضح تعثر مشروع بناء (200) مدرسة، تعاقدت وزارة التربية والتعليم مع إحدى الشركات الأجنبية لتنفيذها، إلا أن هذا المشروع التعليمي الكبير ظل متعثراً بعد أن قطع شوطاً من التنفيذ دون وضوح الأسباب؟
2 - من مبدأ (تجديد الدماء)، أصدرت مؤخراً إحدى الوزارات، ممثلة بإدارة الشؤون الإدارية والمالية، قراراً يحدد فترة تكليف ممثليها بالمكاتب والفروع في لجان التقدير بمدة (أربع سنوات). والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لا تجدد الوزارة دماء ممثليها بالفروع؟ نترك الإجابة للإدارة العامة للشؤون الإدارية والمالية، فلعل لها عذراً وأنت تلوم، فقد يكون هناك دماء فريدة تتجدد تلقائياً.
3 - كثرة تعيينات ونقل خدمات إخوة وأقارب بعض كبار المسؤولين بإحدى الوزارات للعمل بالوزارة، أو مكاتبها وفروعها. وكوننا نعيش عصر الشفافية فقد أثار ذلك جدلاً في الأوساط الاجتماعية حول ما إذا كان هناك استثناءات نظامية تخول للمدير العام لمكتب الوزير مثلاً أو مدير الفروع أو المدير العام للشؤون الإدارية والمالية استحواذ جزء من وظائف وزارتهم لتعيين ذوي القربى عليها؟ فلعلهم يكونون الأحق من غيرهم بالتوظيف والترقيات والانتدابات والامتيازات المالية.
4 - كل موظف حكومي يحصل على بدل انتقال شهري، ورغم هذا يلاحَظ تنامي أعداد السيارات الحكومية مع الكثير من المسؤولين القياديين والموظفين دونما حاجة لطبيعة أعمالهم؛ لتأتي بالمخالفة لنص المادة (27-12) من نظام الخدمة المدنية، بل ربما وصل الأمر ببعضهم إلى تمكين أبنائهم وسائقي عوائلهم من استخدامها، وقد تطول أيضاً - والحالة هذه - مزارعهم ومواشيهم بسبب غياب الرقيب والحسيب. ولكونها من الأملاك المنقولة فإن الأجدى تكوين لجان عليا من الجهات الرقابية والإدارية ذات العلاقة، بالتعاون مع الإدارة العامة للمرور، لحصر أعدادها وجدولتها بكل قطاع مدني وفروعه وفقاً للمسوغات المالية، والتأكد من وضع شعاراتها الرسمية، مع الاستئناس بمخالفاتها المرورية، عندئذ يتضح واقعها الحالي، وتنجلي الرؤية الحقيقية لتحديد الاحتياج الفعلي لمتطلبات العمل وإعادة ترتيب الأوراق للحد من الهدر المالي غير المبرر.
هذا ما يلوح لي من ملاحظات في آفاق الفساد، سائلاً الله التوفيق والسداد.