كنا صغاراً، في المرحلة الابتدائية، لم يكن لدينا نشيد وطني في الصباح، وليس ضمن المواد الدراسية التي ندرسها مادة التربية الوطنية، لكن أساتذتنا وهم عرب، علّمونا حب الأوطان، نشأنا على أن بلاد العرب أوطاني، من الشام لبغداني، ومن نجد إلى يمن، إلى مصر فتطوان!
كنا نعبِّر عن حبنا للوطن بالحرص على نظافته، بدءاً من فناء مدارسنا وحتى الشوارع، مارسنا أعمال النظافة، وكنا حمّالين، دون أن نصطف لنردد: سارعي للمجد والعلياء... كبرنا وكبر جيلنا، وأحببنا الوطن أكثر، كانت الأجيال السابقة تدرك ما هو الوطن، وتعرف أنه مسؤولية كبيرة يجب أن ننهض بها، وبه، بخلاف من لا يعني لهم الوطن شيئاً، غير أنه يملأ جيوبهم، ويمنحهم رحلة خارج أراضيه، فعلى سبيل المثال هل لاعب الكرة الآن، في الألفية الجديدة، هو لاعب المنتخب زمن الثمانينيات؟ لا والله، شتّان بينهما، فالأول يحسب كم تبقى على عقد احترافه، وبكم سيجدد، بينما جيل الثمانينيات، النعيمة وماجد وعبدالجواد وأحمد جميل وصالح خليفة كانوا يفكرون بجميل وطنهم عليهم، وكيف يحملون رايته في المحافل الدولية؟
هل موظف الأمس هو موظف اليوم، لا والله شتّان بينهما، فقديماً يضع مصلحة الوطن والمواطن قبل أي شيء، واليوم يفكر كيف يستغل وظيفة ومنصبه قبل أن يتقاعد، ضارباً بوطنه ومصلحته عرض الحائط!
وهل كاتب الصحيفة في الأمس هو ذاته اليوم، هل كانت همومه ونبله كما هو اليوم، حيث لديه الاستعداد للتنازل عن مثله ومبادئه مقابل المزيد من المال، وهل المدرس الذي يحلم بأن يعلم التلاميذ القراءة والكتابة بشكل متميز منذ الصف الأول، هو ذاته المدرس الذي لا يعرف من الوطن إلا شاشات سوق الأسهم، حيث يبيع ويشتري أثناء حصصه، وأمام التلاميذ المساكين، الذين ينهون مرحلة الابتدائية دون أن يتقنوا مهارات القراءة والكتابة!
كنا لا نعرف من الوطن إلا إخلاصنا، وأنشودة «بلادي بلادي منار الهدى» التي تبثها القناة الأولى، ولا نعرف من الوطن سوى برنامج «ربوع بلادي»، حيث نحسد هؤلاء الأطفال في البرنامج الذين زاروا معظم مدن المملكة، كان حلمنا بسيطاً، هو أن نعرف مدن هذا الوطن العظيم، بينما أطفال اليوم يعرفون مرتفعات أنترلاكن، وطبيعة زيلامسي، وريف إنكلترا أكثر من جبال الهدا ومرتفعات السودة، وريف القصيم.
ما الذي تغيّر يا سادة؟ لماذا نحتاج إلى مقرّر مدرسي يعلّمنا حب بلادنا، لماذا نتعامل مع وطننا بالآلة الحاسبة؟ كم يدفع لنا كي نحبه، تماماً كأطفال اليوم الذين يتعاملون مع آبائهم كجيوب، لا كمشاعر وأحاسيس... الوطن يا سادة ليس رجلاً يجب أن يحبنا كي نبادله الحب، يجب أن نحبه بمقابل، بل حتى لو قابل حبنا بالجحود والنكران، حتى لو قسا علينا، هو عشقنا وشغفنا الأبدي، هو أرض وتراب وهواء وماء، هو كما يفعل الجبلي الذي وصفه حمزاتوف، حين يهاجر من وطنه داغستان، فيحمل على حماره ثلاثة أشياء: كيساً وإبريقاً وقربة، في الكيس تراب وبضع حصى من الجبال، وفي الإبريق ماء من بحر قزوين، وفي القربة كل ما عدا الأرض والبحر، لئلا يموت في الطريق، فلا يجد من يدفنه، ويضع عليه تربة بلاده، ويرش شاهدة القبر بماء قزوين، كأنما يحمل وطنه معه أينما ذهب!
ربما علينا أن نحمل وطننا في قلوبنا، وكلما أفقنا صباح يوم جديد، رددنا: صباح الخير يا وطني