للجامعي ورئيس جامعة الرباط سابقاً كتاب متميز عن جامعة المستقبل نشره مؤخراً عن دار النشر توبقال، والكتاب هو حصيلة تجربة فريدة للمؤلف وبُعد نظر ينم عن وعي بضرورة إصلاح منظومة التعليم الجامعي والبحث العلمي في أوطاننا العربية؛
فحسب الكاتب تتنوّع منظومات التعليم العالي والبحث والابتكار عبر العالم، وهي مكوّنة من مؤسسات مختلفة. من بينها جامعات البحث الرائدة؛ والجامعات ذات الأعداد الهائلة من الطلبة؛ والمعاهد العليا المهنية وكليات الفنون المفتوحة؛ وكليات المجتمع؛ والجامعات الضخمة للتعليم عن بُعد؛ ومؤسسات التكوين المربحة؛ والجامعات الافتراضية. لذلك فإنّ الأهداف الأكاديمية و”الزبناء” المحتملين والبنيات التحتية التنظيمية لكل من هذه المؤسسات مختلفة إلى حد بعيد. وتشكّل هذه الاختلافات فسيفساء مزدهراً بطرق المقاربات لإصلاح وتطوير هذه المنظومات لتحقيق الأهداف المنتظرة.
ثم إنّ العلاقات الوثيقة بين منظومات التعليم العالي والبحث والابتكار ومجتمعاتها تزيد تعقيد تلك المقاربات، وتجعلها على الخصوص تابعة لطبيعة المجتمعات. ونجد في الآن نفسه أن تشكيلات التفاعلات المتبادلة بين منظومات التعليم العالي والبحث والابتكار وبين تحولات العولمة تفضي، في آخر المطاف، إلى نوع من نظامية طرق المقاربات وبناء النماذج. وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد، أولاً، على أنّ الاستراتيجيات التي يقترحها كتابه القيم تشكل مجهوداً فكرياً للتوفيق بين هذين الاتجاهين المتضادين. وهو يرتكز على تجربة شخصية لحوالي أربعين سنة، ممارسة ومسؤولية على كافة مستوياتها واختلاف تسلسلها في المنظومة المغربية للتعليم العالي والبحث والابتكار، واتصالات مستمرة مع عدة منظومات أجنبية حول العالم. ثم إنّ هذا المجهود لا يمكن فصله، ثانياً، عن الرؤيا الموضوعية التي نبسطها لواقع منظوماتنا ولحاجيات بلداننا العربية التي عبرت عنها مجتمعاتنا في مناسبات وبأشكال متعددة، لعل آخرها ما أصبح يصطلح عليه بـ “الربيع العربي”.
إن المتصفح للجرائد الدولية كـ”لوموند” الفرنسية و”الهيرالد تريبيون” الأمريكية ومجلة “التايم” الإنجليزية، على سبيل المثال، سيفاجئه تعدد المواضيع التي تتناول يومياً قضايا منظومات التعليم العالي والبحث والابتكار، سواء منها ما يتعلق بترتيب الجامعات أو بالمقاربات المختلفة للحكومات لهذا القطاع أو بالاستثمارات فيه، رغم الأزمة المالية العالمية، أو برسوم التسجيل وما تحدثه من رجات في الشارع. بل حتى النقاشات السياسية بين المرشحين لرئاسة بعض الدول كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا لا تخلو من برامج تتعرض بإسهاب لحجم الاستثمارات ومجموعة الإصلاحات التي يجب أن تطور هذا القطاع. فالاهتمام المتنامي بمنظومات التعليم العالي والبحث والابتكار نابع من مدى تأثير بعضها في التحولات الأساسية المؤدية إلى العولمة، وفي خلق الثروات، وابتكار وسائل وطرق وتشكيلات جديدة تعطي اقتصاديات الدول التي تملك تلك المنظومات مكانة تنافسية رائدة.
كما أن المكانة المختارة، التي تحتلها مؤسسات التعليم العالي والبحث والابتكار، تنعكس من خلال التطور المتنامي للتعليم العالي على المستوى العالمي تبعاً لما يظهر من عدد الجامعات التي بلغت حوالي العشرين ألف جامعة، أو عدد الطلبة الذي تعدّى مائة وخمسة وثلاثين مليون طالب، أو عدد الأساتذة الباحثين والعاملين في هذا القطاع الذي يفوق العشرة ملايين.
والكتاب يسعى إلى الإجابة قدر الإمكان، على بعض تلك الأسئلة التي عادة ما لا يطرحها المسئولون السياسيون وحدهم عن منظومات التعليم العالي والبحث والابتكار، بل يشاركهم في طرحها أيضاً مهتمون آخرون وأولياء الطلبة وأسرهم. وتنصب هذه الأسئلة على صيغ ودرجات الاستقلال الذاتي التي يجب أن تتمتع به هذه المنظومات، وكذا تسلسل اتخاذ القرار داخلها، ومستوى استثمار الدول، ووسائل اعتماد تمويل متنوع يسمح بتدخل كل الفاعلين في الحقل الجامعي، وكيفية تنظيم البحث وعلاقته بالمقاولات، وسياسة الموقع والأقطاب التنافسية، وأخيراً منظورية مؤسسات التعليم العالي على المستويات الجهوية والعالمية.
وتجعلنا محاولة الجواب على تلك التساؤلات، نتطرّق بالضرورة إلى مقاربات دول رائدة في نوع معين من المقاربات أو من الإصلاحات. إذ يسوق الكاتب عدة أمثلة من أمريكا الشمالية: كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ومن أوروبا: كألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وايرلندة، ومن آسيا: كاليابان والصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ وتايوان ودول الخليج، ومن استراليا ونيوزيلندا. وتبين هذه الأمثلة بجلاء ما يشار إليه من أن المقاربات متعددة ومختلفة. وهي ترتبط بمجتمعات تلك المنظومات، ولها، في نفس الآن، قواسم مشتركة من حيث اهتمامها بتأمين استثمار مهم في قطاع التعليم العالي والبحث والابتكار وبتوفير هياكل ومنظومات قانونية تسمح له بالقيام بدوره كاملاً في إعطاء المكانة التنافسية الرائدة للبلد وخلق الثروات.
ويحاول الكاتب من خلال الجواب على هذه التساؤلات، إلى رفع الالتباس عن التعاليق التي نجدها هنا وهناك حول جودة هذه الجامعة أو تلك وسمعتها، أو التصنيفات الدولية للجامعات، أو مفهوم النموذج المعياري المفروض عن طريق العولمة. إذ يمكننا أن نؤكد اليوم أن هناك ثلاث درجات تتقاسمها ما يقارب عشرين ألف جامعة موزعة عبر العالم. من بينها أقل من عشرة آلاف جامعة للبحث. وما نسميه منها “جامعات الدرجة العالمية” لا تشكل سوى عدد محصور بين مائة ومائة وخمسين جامعة. هذه الجامعات تشكل أقل من واحد من مائة من المجموع الكلي للجامعات. وهي تتميز باستقلال ذاتي تام، وبنظام حر لاتخاذ القرار، وبميزانية مالية سنوية عالية تفوق ميزانية بعض الدول النامية. كما تتميز بتكوين رفيع الجودة وببحث علمي ذي سمعة دولية وابتكار فعال ونظام تنافسية عليا لاستغلال البراءات. هذه المؤسسات هي التي تلعب دوراً مركزياً في العولمة وبناء المزية التنافسية للأمم. وحوالي ضعف ذلك العدد، أي حوالي ثلاثمائة جامعة، هو ما يكوّن الدرجة الجهوية. إن هذه الجامعات، في كل الترتيبات الدولية، مصنفة بين الرتب المائة والخمسمائة.
وهي تتميز باستقلال ذاتي جزئي متقدم وبتكوين ذي جودة عالية ومستوى طيب للبحث وبابتكار ضعيف. فجامعات هذه الدرجة تركز كثيراً على التكوين ذي الجودة العالية. وتصل كلفة الطالب السنوية، في المتوسط، عشرين ألف دولار. أما الجامعات الأخيرة فهي المحلية. وتضم باقي الجامعات، أي حوالي سبعة وتسعين في المائة من مجموع الجامعات في العالم. تعيش جامعات هذه الدرجة استقلالاً ذاتياً محدوداً ووصاية على مسلسل اتخاذ القرار وتكويناً أقل جودة (تقل تكلفة الطالب فيه عن خمسة آلاف دولار في السنة) وبحثاً علمياً مشتتاً، على شكل مجهود فردي غير منظم، وغياب الابتكار، وعلاقة ضعيفة مع القطاع الصناعي.
يمكن هنا أن نستند إلى ملاحظة عامة، تؤكد على الدور المركزي للتعليم العالي والبحث والابتكار في مجتمع المعرفة. وتنبني هذه الملاحظة على تحليل التحولات التي تقود إلى العولمة وإبراز دور العلم والتكنولوجيا في التمظهرات الجديدة للاقتصاد المُعَوْلم، وعلى تأثيراتها المباشرة كعوامل تنافسية، من خلال القدرة التكنولوجية أو قدرة المؤسسات على تفعيل وتوجيه إستراتيجية للنموِّ، مبنية على المزايا التنافسية في السوق المُعَوْلم. وهكذا، فإن البحث والابتكار يلعبان دوراً فاعلاً في مختلف التحولات التي تقود إلى العولمة. إذ إن مهام التعليم العالي والبحث والابتكار تغذي، بطرق متعددة، القوى المحركة للتحولات المؤدية إلى مجتمع المعرفة المُعَوْلم. وانطلاقاً من ذلك يمكننا أن نرى قدرة التعليم العالي والبحث والابتكار على قيادة، بل تصحيح، مسار الاتجاهات التي تؤسس للعولمة، وهنا تبرز قوة الكتاب في التحليل والاستشراف.