آخر خلفاء بني أمية، وأشدهم شكيمة، مروان بن محمد بن عبدالملك بن مروان بن الحكم الأموي، ويعرف بالجحدي وبالحمار لقوته وصلابته القائم بحق الله، ولد بالجزيرة عندما كان أبوه متوليها وغزا سنة 105هـ فأفتتح (قونية) وغيرها وولاَّه هشام بن عبدالملك أذربيجان، وأرمينية والجزيرة،
سنة 114هـ فافتتح فتوحات وخاض حروباً كثيرة والدولة الأموية كان نشاطها في الفتوحات الإسلامية كبيراً ولما قتل الوليد بن يزيد سنة 126هـ وظهر ضعف الدولة في الشام دعا الناس وهو في أرمينية إلى البيعة له فبايعوه فيها، وزحف بجيش كثيف في أيام إبراهيم بن الوليد قاصداً الشام فخلع إبراهيم، واستولى على عرش بني أمية (بني مروان) سنة 127هـ، لكن في أيامه قويت الدعوة العباسية، حيث تقدَّم جيش قطعبة بن شيب الطائي إلى طوس، يريد الإغارة على الشام، فسار إليه مروان بن محمد بعسكره ونزل بين الموصل وأربيل، وتصاول الجيشان فانهزم جيش مروان ففر إلى الموصل، ومنها إلى حرّان فحمص فدمشق ففلسطين وانتهى إلى أبو صير بمصر، حيث قُتِلَ (الأعلام 8-97) والشخصيات التي نعرضها أمام القراء على أنواع فمنهم من يبرزه علمه، حيث يرتفع بالعلم أقواماً وينخفض بالجهل آخرون، ومنهم من تبرزه خصاله وأعماله إذا زكت: شجاعةً أو كرماً، أو حلماً أو زهداً، أو صدقاً ونخوة، أو ورعاً وتعففاً وغير ذلك من الخصال.
ومنهم رجال سياسة وحكم، ابتسم لهم الحظ فارتفعت بذلك منزلتهم، فكان لهم صولة ودولة، أو ساء حظهم فانسدت السبل أمامهم وتخلَّى عنهم أقرب الناس والله سبحانه يقول: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران 140), ومروان بن محمد الأموي من سلالة أمراء وهو أمير فجده عبدالملك بن مروان أقوى شخصية في ملوك بني مروان بدهائه وحنكته وشجاعته ومروءته الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة الأموية أو كما يسميها بعضهم، دولة بني مروان أو المروانية بعد أن كادت تتقطع أوصال دولتهم ولم يبق في يده إلا الشام، بل خاف على الشام فمنع الشاميين من الحج لئلا يبايعوا عبدالله بن الزبير الذي كان له من المكانة والقوة، ومع أخيه مصعب بن الزبير، ما جعل عبدالملك يحسب له ألف حساب، علاوة على الخارجين من العلويين وغيرهم، وقد رزق الله عبدالملك قواداً أعانوه في النهوض بالدولة بعد كبوتها لأن الله مريد للأمويين بقيّة في الحكم كما هي حال عمر الإنسان ومروان وصل للحكم والدولة مهيضة الجناح، والفساد قد دبَّ فيها، والخلافات متفشية بين بني أبيه، فلا هم إلا للملذات الدنيوية ولا مطمع إلا في التغلب والأثرة حتى صار يقتل بعضهم بعضاً إن صح ما نسب للوليد بن يزيد فهذا من الدواهي.
جاء مروان بن محمد إلى الحكم والفتن قد تكاثرت والحاقدون على الدولة قد رفعوا رؤوسهم إما طمعاً أو حقداً ودعاة العباسيين قد علت أصواتهم لكن مروان مع شجاعته لم يرزق حظاً ولم يوفّق بالسعادة في حكمه يقول الشاعر:
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى
فأول ما يجني عليه اجتهاده
فهو وإن كان بطلاً شجاعاً داهية رزيناً جباراً محباً للحركة والأسفار، حيث يصل السرى بالسير ولا يجف لُبَدُ فرسه فهي دائماً عَرِقة من الطراد والمطاردة والمصاولة والمجالدة فإنه قد دوَّخ الخوارج في العراق بأرض الجزيرة قبل أن يصل سدة الحكم وهو الذي افتتح في سنة 105هـ (قونية) وتولى إمرة الجزيرة وإذربيجان لعمه هشام بن عبدالملك سنة 114هـ كما غزا مرة جاوز فيها نهر الروم فأغار وسبا في الصقالبة، وبلادهم إلى الشمال من بلاد البلغار، وهم المسمون بالسلاف.
أما وصفه عند الباحثين فهو أبيض ضخم الهامة شديد الشهلة كث اللحية أبيضها رَبْعَة مهيباً شديد الوطأة أديباً بليغاً له رسائل تؤثر، ومع كمال الصفات التي ذكرها الكاتبون عنه إلا أنه لم يرزق حظاً في التغلب على النيران التي تشتعل في أطراف البلاد لأن الملك بيد الله يهبه لمن يشاء وينزعه ممن يشاء، فقد اضطربت الأمور في وجهه وولت دولتهم ولا راد لقضاء الله. يقول الذهبي عنه وعن توليه الحكم: بويع بالإمامة في شهر صفر عام 127هـ ولما سمع بمقتل الوليد بن يزيد، دعا إلى بيعة من رضيه المسلمون فبايعوه فلما بلغه موت يزيد الناقص، أنفق الأموال وأقبل في ثلاثين ألف فارس فلما وصل إلى حلب بايعوه ثم قدم حمص فدعاهم إلى بيعة ولي العهد: الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وكانا في حبس الخليفة إبراهيم فأقبل معه جيش حمص، ثم التقى الجمعان في مرج (عذراء) يبعد عن دمشق 20 ميلاً وانتصر مروان، لكن في الميدان الفوقاني، تقلّل أعوانه، فوثبوا على ولي العهد ويوسف بن عمر في السجن، وثار شباب دمشق بعبد العزيز بن الحجاج بن عبدالملك فقتلوه لكونه هو الآمر بالقتل ثم أخرجوا من الحبس أبا محمد بن عبدالله بن يزيد بن معاوية ووضعوه على المنبر في قيوده ليبايعوه وكان أول من سلَّم عليه أبو محمد فخطب وحضَّ الناس على الجماعة وأذعن بالبيعة لمروان بن محمد فسمع إبراهيم الخليفة فهرب، وأمَّن مروان الناس، أما إبراهيم فخلع نفسه وكتب بالبيعة إلى مروان بن محمد (مروان الحمار) فأمّنه فسكن الرقة في العراق خاملاً.
وهكذا نرى أن المُلك كما قال ابن خلدون لا ينقضه إلا من بناه وأن الخلافات في الأسرة الحاكمة والقطيعة وجريان الدم بينهم من أسباب زوال المُلك وقد حاول مروان بن محمد ترميم البيت واستعمال الحكمة وجمع الشمل إلا أن الخرق قد اتسع على الراقع، حيث يرى بعض المؤرِّخين أن هذه الصورة من الأحداث فيما بين بني أمية وحرص بعضهم على قتل بعض كانت من الأسباب التي جعلها الله معجلةً بالقضاء على دولتهم، حيث أصبحت الخلافة ملكاً عضوضاً كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتدت القطاعية بينهم فقتل القوي الضعيف انتقاماً وطمعاً في الحكم، وتقطّعت الأرحام بسبب ذلك فكان العدو من أنفسهم وقد حماهم الله من الفرس والباطنيين لأن عصبيتهم عربية وقد انتشر الإسلام في أصقاع عديدة وازدهرت الفتوحات في العهد الأموي.
إذ في هذا الجو المشحون بالقطيعة والتناحر اغتنمها العباسيون فظهرت دعوتهم علانية بالدعوة لدولتهم بعد أن كانت الدعوة سراً، لأنهم كانوا في الأول يخشون من صولة وقوة بني أمية أما وقد دبَّ فيهم داء الأمم، من التناحر والشقاق والقطاعية فيما بينهم واستحلال الدماء، فإن العباسيين نظَّموا أمورهم وخرجوا بشعارهم وهو السواد من العراق وما وراءه شرقاً وشمالاً مستغلين ما وقع بين الحكام الأمويين وابتعادهم عن الجهاد والانشغال فيما بينهم.
يقول خليفة في تاريخه: سار مروان الحمار لحرب المسوّدة - وهم العباسيون وكان شعارهم السواد - في 150 ألفاً حتى نزل بقرب الموصل فالتقى هو وعبدالله بن علي عم المنصور في جمادى الآخرة سنة 132هـ فانكسر جمع مروان وفر فاستولى عبدالله على الجزيرة ثم طلب الشام ففر مروان إلى فلسطين فلما سمع بأخذ العباسيين دمشق سار إلى مصر وطلب الصعيد ثم أدركوه وبيتوه بـ(أبو صير) فقاتل حتى قُتل وبقتله انتهت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية وقد بُويع أبو العباس السفاح قبل مقتل مروان الحمار بتسعة أشهر وكان قتله في ذي الحجة سنة 132هـ وعمره 52 سنة.
يقول عنه المدائني: كان مروان بن محمد عظيم المروءة محباً للهو غير أنه شغل عنه بالحروب وكان يحب الحركة والسفر ويروى عن جبروته أن يزيد بن خالد بن عبدالله القسري الأمير كان قد قاتله ثم ظفر به فأدخل عليه يوماً فاستدناه ولف على أصبعه منديلاً ورضّ عينه حتى سالت ثم فعل كذلك بعينه الأخرى وما نطق يزيد، بل صبر نسأل الله السلامة والعافية، وعند اهتمام الخلفاء العباسيين بأخبار الأمويين يقول الوزير أبو عبدالله: قال لي المنصور: ما كان أشياخك الشاميين يقولون قلت: أدركتهم يقولون إن الخليفة إذا استخلف غفر له ما مضى من ذنوبه قال أي والله وما تأخر - ولعل هذا الجواب من باب الاستهزاء - أتدري ما الخليفة؟ به تُقام الصلاة والحج والجهاد، به يجاهد العدو.
قال مفرداً من مناقب الخليفة ما لم أسمع أحداً ذكر مثله وقال والله لو عرفت من حق الخلافة والخليفة في دهر بني أمية ما أعرف اليوم لأتيت الرجل وبايعته فقال ابنه: أفكان الوليد منهم؟ فقال: قبّح الله الوليد، ومن أقعده خليفة، قال أفكان مروان منهم؟ قال: لله دره ما كان أحزمه وأسوسه وأعفّه عن الفيء قال فلم قتلتموه؟ قال للأمر الذي سبق في علم الله تعالى.
قال الزركلي في الأعلام كان مروان حازماً مدبّراً شجاعاً إلا أن ذلك لم ينفعه عند إدبار الملك، وانحلال السلطان وجاء في معجم البلدان بأنه أول من عظّم الموصل، وألحقها بالأمصار العظام، وجعل لها ديواناً يرأسه ونصب عليها جسراً ونصب طرقاتها وبنى عليها سوراً وقال الدينوري في الأخبار الطوال: وإنما بنى الموصل بعد ذلك مروان بن محمد وقال غيره، وصارت الموصل في عهد مروان الثاني آخر خلفاء بني أمية قاعدة إقليم الجزيرة وبنى فيها الجامع الذي فيما بعد سمي بجامع مروان.
وقرأت في رسالة جستير أن القائد الشهير الذي طرد الصليبيين من الشام وفلسطين: صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله- يرجع نسبه إلى ملوك بني أمية وجده ممن فرَّ لبلاد الأكراد خوفاً من ملاحقة العباسيين.
mshuwaier@hotmail.com