كنت أتأمل بعض الصور القديمة لعدد من الشخصيات الهامة في هذا العالم الفسيح، بعضها فيه عدد من البارزين، وذهبت بعيداً في الخيال، وأعدت وكررت، ثم عدت بذاكرتي إلى ما جرى لي وما جرى مني عبر السنين التي مضت وكأنها حلم ليل.
قلت: سبحان الله كم مر على هؤلاء من مواقف، وكم كان بينهم من تنافس وتنازع، تركوا هذه الدنيا بما فيها، وبقوا في قبورهم لا يتازعون ولا أحد ينازعهم، لكن ما حباهم الله من فترة وجيزة في هذه الحياة مرت ربما دون أن يهنؤوا فيها لانشغالهم بالبحث عن أفضل السبل للإيقاع بمن ينافسهم، أو من لا يحبون ، أو من يخالفهم في رأي، فمرت ثمرة أعمارهم تلك، التي كان أجدر بهم استثمارها فيما ينفعهم وينفع الناس، فعاشوا في نكد من الدنيا، والله أعلم بهم في الآخرة، وهناك من دارى الناس بكل ما يستطيع لكنه لم يخل أبداً من حاسد لا يهمه إلاّ زوال النعمة، وهذا من الابتلاء الذي يستوجب الصبر، يقول الشافعي:
وداريت كل الناس لكن حاسدي
مداراته عزت وعز منالهـا
وكيف يداري المرء حاسد نعمة
إذا كان لا يرضيه إلاّ زوالها
ومع ذلك فليس للإنسان سوى المداراة وهي من مظاهر الصبر، يقول الشافعي:
لما عفوت ولم أحقد على أحد
أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيتـه
لأدفع الشر عني بالتحيـات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه
كما أن قد حشى قلبي محبـات
لكن الشافعي لم يذكر أنَّ الذي أضمرت بغضه سيظل ذكره ينكد عليك حياتك، فلو أن المرء قد أزال البغض من قلبه لكان أهون له وأيسر وأسعد، وأقرب بصدق المودة إلى القلب الذي يعلم في الغالب لغة قلب مناجيه، وليس في جميع الأحوال. يقول المتنبي عن كافور عندما كان عنده:
أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا
وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
تظن ابتساماتي رجاء وغبطـة
وما أنا إلاّ ضاحكاً من رجائيـا
رحم الله المتنبي ، فقد عاش طامعاً في المنصب إضافة إلى المال، وكان يرى نفسه بما حباه الله من الشعر، والغوص في المعاني، أنه أرفع من كثير من الناس، فكان في صراع دائم مع منافسيه من جلاس سيف الدولة، أو مع أولئك المحيطين بكافور، وتجاوز في أمر تعاليه حتى بلغ سيف الدولة وكافور، وفي نهاية الأمر مات مقتولاً بسبب هجوه وتعاليه.
أقول ذلك وأنا أراجع كتابي “ مآسي الأندلس” وأذكر ما جرى بين موسى بن نصير وطارق بن زياد من منافسة شاركهم فيها مغيث الرومي مندوب الخليفة الوليد بن عبد الملك.
فقد فتح المسلمون الأندلس على يد طارق بن زياد الليثي الذي كان والياً على طنجة من قبل موسى بن نصير، وقد نقلت لنا بعض المراجع العربية ما تأجج في قلب القائد الفذ موسى بن نصير من حسد بعد أن علم بانتصارات طارق خشية أن ينسب ذلك إلى طارق دونه، فما كان منه إلاّ أن أمره بالتريث عن مواصلة الفتح وتوعده إن هو خالف أمره.
وكتب موسى إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك في الشام ينسب الفتح إلى نفسه وركب في ثمانية عشر ألفاً من الجند وسار بهم إلى الأندلس، وفتح مدناً جديدة ولقي طارق في مدينة استرقة بالقرب من طليطلة فضربه بالسوط، ووبخه وأظهر ما في قلبه من حسد عليه، ويقال: إنه هم بقتله، مطالباً إياه بما حازه من مال، وما غنمه من غنائم، وتذكر المصادر أن من تلك الغنائم مائدة نبينا سليمان عليه السلام، وكان طارق قد خلع من أرجلها رجلاً وخبأها عنده، فسأله موسى عنها فقال: لا أعلم عنها شيئاً. وهكذا أصبتها، فأمر موسى بأن يجعل لها رجلاً بدلاً عنها، لكن تلك الرجل المصطنعة كانت بعيدة كل البعد عن الثلاث الباقية.
بعد مدة جاء رسول الخليفة الوليد بن عبد الملك، مغيث الرومي بأمره بالتخلي عن التوغل بالمسلمين في بلاد لا يعرف الخليفة الكثير عنها، لكن موسى أقنع مغيث بالتريت واستمر عاماً آخر والفتوح تستمر حتى جاء رسول آخر من الخليفة يقال لـه أبو نصر يأمره بالعودة ويتوعده وعيداً شديداً إذا لم ينفذ أمر الخليفة.
في أثناء عودة موسى إلى الشام برفقة رسولي الخليفة مغيث ونصر، كان حاكم قرطبة أسيراً بيد مغيث، فطلب موسى الأسير من مغيث فأبى أن يسلمه له فهجم عليه موسى وانتزعه منه وقتله.
بعد الوصول أخذ طارق ومغيث يوغران صدر سليمان بن عبد الملك على موسى بن نصير، وبعد وفاة الوليد وتولي سليمان، أحضر موسى واتهمه بأنه غلّ مالاً كثيراً، فأخذ ما لديه من مال، وتركه في الشمس حتى كاد أن يموت، وهناك من يقول غير ذلك، وأنه كان معه في الحج ومات في الطريق والقصة تطول.
وما يهمنا من هذه القصة، أنهم رحمهم الله قد ماتوا جميعاً، وتركوا لنا إرثاً طيباً، لكنهم ربما بمماحكاتهم وتنافسهم قد عاشوا حياة غير سعيدة في بعض محطاتها، كما أنهم قد حرموا المسلمين من مزيد من الفتح.