كثيراً ما نشعر بالشفقة أو الاستفزاز حينما نتعامل مع من لا يدري أنه لا يدري.. لكن كيف ننظر إلى أنفسنا حينما نكتشف أننا في مواقف بعينها كنا متيقنين من أمر ما ولم نكن ندري أننا لا ندري.. ثم ثبت لنا بالبرهان والواقع المعاش أن يقيننا لم يكن سوى وهم؟.. وإليكم ثلاثة أمثلة:
1 - الأول: شخصي.. في مطلع مراهقتي تزوج صديق لأبي فلبس دبلة من الذهب.. تحول ذلك الشخص في نظري من صديق لأبي إلى عاصٍ يجب كرهه.. بل وتمنيت في نفسي أن يقطع الله أصبعه الذي توسطته تلك الدبلة المذهبة.. لا أدري لماذا وكيف أتتني تلك الكراهية؟!.
2 - حدثني صديق أنه حتى تخرج من الثانوية العامة كان الناس عنده درجات أعلاها أهل قبيلته يليهم أهل القبائل الأخرى ثم الحضر من منطقته.. وهكذا.. في تدرج مخروطي يختصر احترامه لهم ويحله بشعور مشبع بالاحتقار للآخرين حتى ولو كانوا أحسن حالاً منه.
يقول صديقي: ابتعثت للدراسة في أمريكا مع أفواج الابتعاث الأولى أيام طفرة السبعينيات الميلادية.. وهناك اكتشفت المصيبة وأدركت أنني وقبيلتي – التي أعتبرها سنام القبائل على المستوى الإنساني – في موقع متأخر على ميزان تقدم الأمم والشعوب في هذا العالم.
3 - يروي مدون إلكتروني في مدونته: أنه في آخر الثمانينيات الميلادية اشترك مع مجموعة كبيرة من الذين لا يدرون أنهم لا يدرون في الذهاب إلى نادٍ أدبي لإجهاض ندوة شعرية يكرم فيها شاعر (حداثي).. وكان في يد كل واحد منا كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) يحل في نفوسنا كما لو كان قرآناً مجيداً.. وفعلاً ألغي الحفل والتكريم.. واحتفلنا بهذا النصر العظيم.. واليوم وبعد مضي عشرين سنة أقرأ ذلك الكتاب من جديد فلا أجد فيه سوى دعوة للكراهية لأجلها تم ليُّ أعناق النصوص.. فانقلبت الحقائق وألَّبت البسطاء مثلي الذين لا يدرون أنهم لا يدرون.. فأبتئس من فعلتي وأسأل الله أن يغفر لي.
واليوم انظروا إلى الجدل المحتدم في مجتمعنا تجاه أحداث مصر.. وانظروا إلى اليقينية التي ينظر بها كل طرف تجاه ذات القضية.. بعد سنوات من اليوم كيف ستكون آراؤنا اليقينية تجاه تلك القضية.. هل ستظل يقينية كما كانت أم تتبدل بعد انقشاع ضباب التحزب واتضاح الرؤية وظهور النتيجة؟.
المشكلة في أن تدري أنك لم تكن تدري.. إننا ندرك هذه الحقيقة متأخرين.. وبعد فوات الأوان وربما بعد خراب العمار.. وحينها لا يفيد الندم.