من يتأمل في بعض صور الفتوى على امتداد الوطن العربي ينتابه حالة من الأسى على هذا التراجع الخطير في مستوى الأداء الفقهي الذي اجتاحته حالة من الفلتان، نالت من جناب الفتوى، واستباحت حرمها المهيب، على نحو ساهم إلى حد كبير في صناعة لون من الوعي المزيف.
في كثير من الأحيان نجد أنفسنا أمام حالة من ظاهرة ذلك الفقيه الوصولي المتكسب الذي يجعل من الفتوى سوقاً للعرض والطلب، ويحيلها إلى أداة وصولية، يتم امتطاء صهوتها لتسول منصب أو مغازلة مسؤول أو تملق مريد أو استصدار شهادة رضا جماهيري، ومن ثم رسم ملامح لضرب من الحضور الشعبوي المكثف, ولا عزاء لمن وهن في وعيه الحس الأخلاقي فانغمس في أوضار الشهوانية، واستوطنه طيفها الأخاذ.
وإذا كان الفقيه (الأصولي) ينطلق من عالم قيمي تحكمه مثل عليا وأخلاقيات مبدئية؛ فهو صاحب مبدأ يحدوه للانحياز المتواصل نحو الحقيقة، فإن الفقيه (الوصولي) على العكس من ذلك؛ فهو مثقل بكتلة من التطلعات غير البريئة التي تعيق عن الانطلاق والتصاعد باتجاه التحرر؛ لذا فلسانه يباشر إسقاط الأحكام في الحين الذي عينه ترصد تحولات الأرصدة وحركة صيرورتها، سواء كانت أرصدة مادية أو أرصدة بشرية، يتكثف من جرائها سواد الأتباع، سواء على أرض الواقع أو على صعيد العالم الافتراضي حيث تزداد أرقام «الفلورز» على نحو يعزز من فرص فتح آفاق جديدة وفرص إضافية تفسح المجال لإشباع الرغبات المتطلعة!
آية الفقيه الوصولي وعلامته الفارقة الثابتة هو التناقض الجلي في أحكامه وانعدام الانسجام في مواقفه - وإن كان ثمة من اتساق ذات لحظة ما فهو شكلي عرضي استثنائي لطروء ما يقتضيه - فهو لا يجد أدنى حرج في أن يحكم على النظير بحكم مباين وإلى درجة التضاد لما حكم به على نظيره، مع أن الحيثيات متماثلة، فيقوض أركان الحكم في واقعة ما بل يجعله حصيداً كأن لم يغن بالأمس، بينما الحكم ذاته قد أثبته قبلاً لواقعة تضارعها في الملامح ذاتها، وتتقاطع معها في الملابسات ذاتها!
وإذا كان الفقيه الأصولي يمتاز باتساقية المنهج واطرادية الموقف وجلاء الرؤية فإن الفقيه الوصولي محكومٌ بالمنطق النفعي وإملاءات المصلحة الذاتية؛ فهو - وبدافع عشق الوجاهة وتلمس حظوظ الذات واستشراف مظانها - لا يقيم وزناً للمبدأ، ولا يضع اعتباراً للمصداقية؛ لذا يتعذر عليه التحكم بلعابه الذي لا يجد أدنى غضاضة في أن يسيل عند أدنى مطمع!
شروط المنهجية تقتضي عدم التفريق بين المتماثلين، وعدم التسوية بين المتخالفين. والفقيه الوصولي يمتهن خرم تلك القاعدة باحترافية ملحوظة، وبأساليب خداعية ماكرة بالغة في التلون منتهاها. ولا شك أن هذا التلون إذا كان يجري بشكل مطرد فهو لا يعبر إلا عن تمرغ في وحل المطامع الدونية وارتماء بالغ في أحضان البعد المادي بل تلبس بخيانة مقيتة تتعارض ومقتضيات ميثاق الشرف العلمي. ولا غرو؛ فضمور الإخلاص وخفوت تمظهراته والحضور الباذخ للشعور النفعي هو ما يحدو الفقيه الوصولي إلى إعمال آليات اشتغاله الفتوائي على ضوء معادلات الربح والخسارة!
النفس التجاري متجذر بكل كثافته هنا؛ فهو من يتحكم بطبيعة الأداء الفقهي، ويوجّه مساراته بل يدفع صاحبه إلى التحرك نحو ارتياد آفاق سامقة قد تتقاصر عنها أحياناً إمكاناته الهزيلة.
ومحصول القول: إن الخليق بالفقهاء - ولاسيما أنهم يضطلعون بأشرف مهمة، وهي الإفتاء والتوقيع عن رب العالمين - أن يكونوا أوفياء للحقيقة مجسدين للمصداقية وحراساً أمناء لقداسة الضمير الموضوعي.
abdalla_2015@hotmail.com