تتعرف على الشخص، تقترب منه، يثيرك فيه مزايا وصفات لا تجدها (ربما) في غيره، تسجل اسمه ضمن قائمة الأصدقاء القريبين منك بعد أن تتبين لك كل هذه المزايا في شخصيته، حتى إذا ما غاب عنك لفترة من الزمن - طالت أو قصرت - أثار ذلك لديك شيئاً من الوله والشوق، مستذكراً انطباعك الجميل عنه، ومتذكراً ما رسخته مزايا شخصيته في ذهنك، أما حين يكون الغياب أبدياً فالموقف هنا يختلف، فمن شوق ووله حالة، ومن انتظار وترقب للقاء قادم قد لا يطول، إلى فجعية تجللها مساحة لا حدود لها من الحزن والانكسار والتأثر، وإلى خسارة كبيرة ليس هناك ما يمكن أن يعوض عنها.
***
هكذا هو حالنا، مع كل فاجعة تصيبنا أو تمسنا في الصميم، وبمثل هذا التصور يمكن أن يوصف به مثل هذا المشهد الحزين كلما صدمنا بفقدنا لأي من الأحباب، دون أن تكون لدينا أو عندنا من قدرة سوى التسليم بأن هذا قضاء وقدر، وأنه لا حول ولا قدرة ولا قوة إلا بالله العلي القدير، بينما تستمر مثل هذه المشاهد الحزينة في حياة كل منا، بتواصل إطلالة الموت زائراً ومختطفاً لأغلى وأعز من نحب.
***
وفي هذا الإطار، جاءت وفاة الزميل سليمان الفليح ضمن سلسلة طويلة من الخسائر التي جزعنا لها، وحزنّا عليها وتأثرنا بسببها، فقد تركت في النفس جرحاً غائراً لن يندمل بسهولة؛ إذ إن غياب الأحباء لا يعوض، كما أن وفاة أي من الأصدقاء لن يكون له من بديل، فضلاً عن أننا بعواطفنا ومشاعرنا لن ننسى سنوات خلت وذكريات مرت من العلاقات الإنسانية التي تجذرت بيننا وبين من غيبهم الموت عنا.
***
في حالة الزميل سليمان الفليح -رحمه الله- فقد خسرت الصحافة والإعلام بعمومه قلماً متميزاً في فكره وثقافته وتوجهاته، كما خسرنا بوفاته شاعراً متمكناً بشقيه الفصيح والعامي، وتكون الخسارة أكبر حين نعلم أن فقيدنا الأستاذ الفليح كان يوظف شعره في خدمة قضايا الأمة، ويستخدمه من حين لآخر في الدفاع عن حقوق مواطنيه، ومن دون أن يتخلى عن التزامه ومسؤولياته أمام من يجد في قلمه من القراء القدرة على معالجة أي من همومهم.
***
لقد كانت وفاته مفاجأة لم نكن - على الأقل - محضرين لها، من خلال ما قد يقال عن مرض كان يعاني منه، مع علمنا بمدى خطورته على حياته، خاصة وأنه كان ملتزماً ومنتظماً في كتابة مقالاته في صحيفة الجزيرة مما يؤكد سلامته من أي مرض خطير، يؤكد ذلك أنه لم يُبد منه ما يفيد بعدم قدرته على مواصلة الكتابة، فيما عدا - كبعض الكتاب - ما أبداه من رغبة في التوقف عن الكتابة خلال أيام العيد، وهو ما تم باتصاله بي مبدياً هذه الرغبة خلال الأيام الأخيرة من رمضان التي سبقت عيد الفطر المبارك.
***
كثير من الكلام والكلمات وبث الأحزان والمواجع التي يمكن أن نعبر بها عن حالنا حين استقبالنا لخبر وفاة الزميل الفليح، غير أن الوفاة أكبر من كل الكلمات، وأبلغ من أي تصوير لحزننا، وهي أولاً وأخيراً لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى إعطاء الزميل حقه من حبنا وتقديرنا ومشاركتنا لأبنائه وأسرته مواساتهم في فقيدهم وفقيدنا الزميل العزيز سليمان الفليح، فله الرحمة ولأسرته الكريمة مواساتنا، وهكذا هي الدنيا رحلة قصيرة تنتهي بمثل هذه النهاية المصحوبة بدموع المودعين للزميل العزيز.
***
غير أن ما يمكن أن يشار إليه في عجالة واختصار شديدين أن كتابات الزميل الفليح كان يفوح منها عبق الماضي التليد، ويُشم فيها راحة إباء وشموخ الآباء والأجداد باجتراره لقصص وروايات وإن مضت، فقد بقيت خالدة دون أن تُنسى، يرويها لنا الفقيد بمفردتها الأصيلة، وتفاصيلها الساحرة، بما في ذلك استخدامه للكلمات المهجورة وغير المستخدمة في نثره وشعره، بحضور باه، وذائقة فنية عالية، ربما لم يلتفت إليه في هذا التميز كثير منا، منصرفين عنه إلى لون آخر من الطروحات، وإلى أسماء أخرى من الكتاب، ضمن خيارات كثيرة توفرها الصحافة والكتب واستخدام الحاسب الآلي.
***
لقد مضى زميلنا إلى نهايته، مودعاً أهله وأحبابه، بعد أن أعطى وبذل في هذه الحياة، وتعامل معها كما يتعامل كل عصامي، بإرادة لا تعرف اليأس، رغم سنوات من القسوة وشغف العيش التي واجهها جيله، متنقلاً من دولة لأخرى، ليؤكد تحديه وإصراره لأن يعيش أبياً يزرع الأمل دون يأس نحو مستقبل مشرق، حقق بعضه وبقي البعض الآخر دون استكماله، لأن الحياة كانت له كما كانت لغيره قصيرة، فحالت دون أن يحقق طموحه وآماله كلها. فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته وجبر مصيبة أهله وذويه وعظم الله أجرهم.