رداً على سؤال وجهه أحد الحضور لتشومسكي أثناء زيارته لبيروت قبل أشهر، حول ما إذا كانت هناك مؤامرات أمريكية تحاك ضد الانتفاضة المصرية، قال تشومسكي “ أفضل وصفها بالتخطيط العقلاني وليس المؤامرات..”. هذا ما يقوله أكبر مفكر عالمي معارض للسياسة الأمريكية..
الرجل لم يجامل ولم يستغل ما يدعم وجهة نظره لينتهز رواج نظرية المؤامرة في العالم العربي بقيادة منظريها المعتادين على التبسيط أو المسكونين بهواجس الارتياب. فلا يزال قطاع كبير من المثقفين العرب يُصرّ بأن التآمر الأمريكي وراء كل عملية سياسية كبرى وتدار من سفيرها الذي يبدو وكأنه الحاكم في الدولة الصديقة لأمريكا أو المسيطر على الأوضاع في الدولة المخاصمة، حتى تبدو أمريكا وكأنها كائن خرافي يقبع وراء أبوابنا..
تقول الكاتبة الأمريكية ماريا جوليا: “علق أحدهم لافتة ضخمة وسط ساحة قريبة من شقتي خلال مظاهرات 30 يونيو تحمل صورة السفيرة الأميركية بمصر.. ووضعت على وجهها علامة إكس، وكتب أسفلها ارحلي”. وتقول: “ يعشق بعض المصريين نظريات المؤامرة، ويعتقد كثيرون أن محمد مرسي، الرئيس المخلوع، عمل لحساب الأميركيين، الذين ساعدوا جماعته في الوصول إلى السلطة بشروط معينة، وهي الحفاظ على السلام مع إسرائيل..” (خدمة “واشنطن بوست”، صحيفة الشرق الأوسط).
وحسب “أخبار نت” نشرت صحيفة الأهرام حينها في صفحتها الأولى تقريراً بعنوان: الاهرام تنشر تفاصيل المؤامرة الأمريكية على مصر والساعات الأخيرة في حكم الإخوان؛ بالإضافة إلى عنوان بلون أحمر” السفيرة الأمريكية اتفقت مع الشاطر على قيام مرسي بإدارة البلاد من مسجد رابعة العدوية”. بالمقابل يطرح الطرف المؤيد لمرسي بأن أمريكا أو إسرائيل تآمرت مع الانقلابيين، مثلما نشر مركز التأصيل للدراسات والبحوث تقريراً بعنوان “دور اليهود في عزل الرئيس المصري” يعلن “دور اليهود وأصابعهم غير الخفية في القضية المصرية، وخاصة بشأن عزل الرئيس المصري الشرعي المنتخب محمد مرسي” حسب التقرير.. والدليل على المؤامرة هو أن نتائج “الواقع على الأرض تدل على ولوغ هذه الأصابع والأيدي اليهودية في هذا الأمر.” أما الدليل على ضلوع إسرائيل بالمؤامرة فهو أن الصحف الإسرائيلية أثنت على الانقلاب!
عشاق نظرية المؤامرة غالباً ما يؤكدون نظريتهم من خلال الاستدلال بظواهر النتائج النهائية على أرض الواقع وليس من خلال كشف أدلة ملموسة للمؤامرة المزعومة، أي عبر دليل مقلوب كمن يضع العربة أمام الحصان.. فلو طبقنا ذلك الاستدلال لأصبح كل عمل فاشل وراءه مؤامرة، بل لأصبح الإنسان الذي يفشل في عمله متآمر على نفسه، والدليل أن خصمه فرح بنتيجة هذا الفشل!
اللجوء إلى ظواهر النتائج النهائية وليس إلى مقدمات العمل الملموسة يتم نتيجة أن عشاق نظرية المؤامرة لديهم قناعات سياسية مطلقة وثابتة وإيديولوجيا صماء لا تتعدل، فلا يعترفون بالفشل ولا بوجود أخطاء تحتاج مراجعة.. وعند العجز في تفسير فشل قناعاتهم يلجأون لنظرية المؤامرة لتسد ثغرة هذا العجز، وتريح المؤدلج نفسياً من قلق التعديل وعناء المراجعة.. فالمتعصب الإيديولوجي يملك وجهة نظر قطعية سابقة وجاهزة لكل الأحداث فعندما تحصل واقعة غير مفسرة من قبل قناعاته يلجأ إلى التفسير التآمري ويتخيل سياق الأحداث بما ينسجم مع تعصبه الفكري وليس بما وقع فعلاً.
البيئة الاجتماعية العربية تدعم هذا التصور لأن علاقة كثير من العرب بالوضع السياسي هي علاقة شخصية أكثر منها موضوعية سياسياً تقرأ الأحداث بسياقها. فالرأي السياسي الموضوعي هو رأي نسبي متحرك حسب الأحداث الواقعية المتغيرة بينما الرأي الذاتي هو رأي نفسي يتأثر ببلاغة الخطابات العاطفية، فضلا عن انتشار التفكير الخرافي للأحداث.. تقول جوليا: “ نظراً لكوني أميركية، كثيراً ما يقول لي جيراني في القاهرة بأسئلة مثل “هل من أنباء عن أوباما؟”، كما لو كنت ضالعة في عملية اتخاذ القرار الأميركي. فعلاقة المصريين مع أمريكا تبدو شخصية بقدر ما هي سياسية..”
ليس المصريون وحدهم فالثقافة العربية السياسية ترزح تحت وطأة نظرية المؤامرة.. ورغم أن ثمة عشق عالمي لروايات المؤامرة، إلا أن فكرة المؤامرة قلما تلعب دوراً مهما في التحليل المنهجي الموضوعي للعمل السياسي في الدول المتقدمة، فهي تكاد تنحصر في مسائل الاغتيال والتفجير لارتباطها المتوقع بالعمليات الاستخباراتية السرية. أما مسألة كشف الأسرار والفضائح والمؤامرات التي تظهر بين فينة وأخرى مثل ما تكشفه ويكيليكس فهي رغم أهميتها إلا أنها جزء ثانوي في اللعبة السياسية.
فلا يمكن استبعاد المؤامرة من اللعبة السياسية، إلا أنها نادراً ما تلعب دوراً حاسماً في تاريخ الشعوب أو تؤثر جوهرياً على الأحداث الكبرى، باستثناء الاغتيالات الفردية. ذلك أن المجتمعات وتاريخها ليس فراغاً يتم تعبئته بخطط المتآمرين وتزييفهم المؤقت لبعض الوقائع، فحركة التاريخ هي تراكم للأحداث وتطورات حقيقية (مادية وروحية). وقد تجدي المؤامرة على المدى القصير لتحقيق منافع آنية، بينما المصالح المتشابكة تبقى على المدى المتوسط والبعيد، ومن ثم فمصالح الدول لا تركن للتآمر ذي التأثير القصير الأجل.
المؤامرة ليست محركاً أساسياً في العلاقات الدولية، فهي تتم بين طرفين في الخفاء لعمل غير قانوني ومؤذٍ للآخرين (قاموس أكسفورد)، بينما الاختلاف بين الأمم أساسه المصالح وتشعباتها المعقدة، تتم بين حكومات تمثل بشكل أو بآخر مصالح شعوبها يصعب أن تتم خفية، خاصة في العصر الحديث حيث صناعة القرار في الدول العظمى المتهمة بالتآمر تمر بسلسة طويلة ومتشابكة من هيئات الدولة التنفيذية والتشريعية والاستشارية والقانونية وشبكة الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني.. مما يجعل المؤامرة الكبرى أقرب إلى المستحيل.
إن التقليل من دور المؤامرة لا يعني التقليل من خطورة العامل الخارجي وتخطيط الخصم الخارجي بقدر ما يعني أن التركيز ينبغي أن ينصب على الداخل لتطويره، بدلاً من إهدار الجهد في شتم مؤامرات عدو بطريقة لا تنفعنا ولا تضره. ففي خضم استغراق المنظرين لفكرة المؤامرة، قلما نجدهم يتساءلون عن سبب عجزنا عن التصدي لهذه المؤامرات المزعومة؟ ولماذا تنجح بطريقة مذهلة وكأن الشعوب تقاد بالمسطرة والمنقلة؟ ولماذا تستهدفنا دون غيرنا من الدول؟ أما أهم سؤال فهو لماذا لا يتم كشف الأدلة الملموسة لتلك المؤامرات؟ الجواب: لأنها لم تقع إلا في عقول المنظرين!
alhebib@yahoo.com