يعيش معظم موظفي القطاع العام بسبب الارتفاع المتواصل واقعاً في أعباء المعيشة، لم تستطع أن تجاريه مستويات الأجور، وهي مشكلة أكبر بكثير من أن تحل بمجرد حصول زيادة في الراتب. فكما نعرف جميعاً، ففي ظل عدم نجاح جهود سعودة القطاع الخاص فقد نما التوظيف الحكومي بصورة كبيرة؛ إذ إنه في عام 2012 فقط تم توظيف ما يزيد على 300 ألف موظف جديد في القطاع الحكومي؛ ومن ثم فإن رواتب الموظفين تستهلك الآن معظم الإنفاق الحكومي، وهو وضع يجعل من غير الممكن توقع إقرار زيادة كبيرة في الرواتب، وأي زيادة يمكن تصوُّر إقرارها ستكون بنسبة لن تسهم حتى في تخفيف المشكلة ناهيك عن أن تحلها.
على سبيل المثال، لو أُقرت زيادة بنسبة 15 % مثلاً فإن شخصاً راتبه 5,000 ريال سيصبح بعد هذه الزيادة 5,750 ريالاً، ولا أعتقد أن هناك من يعتقد أن مثل هذه الزيادة يمكن أن تخفف من المعاناة المالية التي تواجه معظم الأفراد حالياً؛ ما يؤكد أن المشكلة أكبر بكثير من أن تحل من خلال مجرد زيادة في الراتب.
ومن ثم فإننا أحوج ما نكون إلى إصلاح اقتصادي يتعامل مع مشكلات أصعب وأعمق، وبشكل أكثر تحديداً فإننا بحاجة ماسة إلى الآتي:
1 - أن ندرك أن المشكلة ليست في انخفاض الرواتب وإنما في انخفاض الدخل العائلي بسبب تدني نسبة مشاركة من هم في سن العمل من المواطنين في سوق العمل، التي لا تتجاوز 30 % ممن هم في سن العمل، الذي كان من نتيجته أنه بدلاً من أن يكون في العائلة اثنان أو ثلاثة يعملون نجد أن رب الأسرة هو فقط من يعمل؛ ما جعل دخله أقل من أن يلبي الاحتياجات المالية المتزايدة لعائلته.
ومن ثم فنحن في أمسّ الحاجة إلى توسيع هذه المشاركة، التي لن تكون ممكنة طالما استمر فشل برامج السعودة، وعدم قدرة الاقتصاد على خلق فرص كافية بأجر مناسب للعمالة المواطنة في القطاع الخاص؛ لتتراجع معدلات الإعالة في المجتمع، وتتوسع مصادر الدخل العائلي.
2 - أن ندرك أن تراجع قدرة دخول الأفراد على تلبية احتياجاتهم المالية ناتج من النمو المستمر والمبالغ فيه في معدلات الإنفاق الحكومي، الذي تسبب في ارتفاع كبير في معدلات التضخم بصورة لا تعكسها مؤشرات تكاليف المعيشة المعلنة، خاصة ما نتج ننه من ارتفاع فاحش في أسعار الأراضي والعقارات، الذي تسبب بدوره في مشكلة إسكانية خطيرة، جعلت تأمين المسكن يستهلك جزءاً كبيراً من دخل معظم الموطنين.
ومن ثم فنحن في أمسّ الحاجة إلى تحجيم هذا الإنفاق، وامتصاص فائض السيولة الحائرة في الاقتصاد، إن كان لمعدلات التضخم أن تستقر ولفقاعة الأصول العقارية أن تنكمش، الذي سيحقق تحسناً حقيقياً في مستويات المعيشة بصورة لا يمكن أن تحققه أي زيادة في الراتب مهما بلغت نسبتها.
سلسلة المقالات التي كتبتُها خلال الأسابيع الماضية عن نقمة الموارد والسياسات الاقتصادية التي يلزم اتباعها لتفاديها أظهرت أن صانعي السياسة الاقتصادية في البلدان التي نجحت في التغلب عليها كانوا واعين تماماً لما يمكن أن يتسبب به تدفق إيرادات صادرات الموارد الطبيعية من مشكلات أكبر من أن تستطيع هذه الموارد حلها مهما بلغت ضخامتها، وأن هناك سياسات يلزم تنفيذها بدقة وصرامة لتفادي نقمتها.
والوقت قد لا يكون قد فات لقيامنا بذلك، لكن يلزم أولاً أن نستوعب ونفهم حقيقة المشكلات التي نواجهها، لا أن نرى فقط إفرازاتها؛ فهذا الفهم السطحي لمشكلاتنا يعمقها ولا يحلها.
alsultan11@gmail.comأكاديمي وكاتب اقتصادي *** on twitter @alsultanam