فـي الصباح الباكر، وحين يحلُّ الظَّلام “مرتين في اليوم” تودع الأم المصريَّة “سنية “ أولادها الثلاثة.. وعند السَّاعة العاشرة صباحًا ومع غياب الشَّمس وحلول المساء تخرج من عندها بنتها الوحيدة “جيهان” وهي تدعوا الله لها بأن يحميها من أولاد الحرام.
- محمد يتجه إلى ميدان رابعة العدوية ليقف مع “الأخوان” في خندق المطالبين بعودة الرئيس “مرسي”، والمندِّدين بالانقلاب وسحب “الشرعيَّة” بعد ثورة 30 يونيو التي أخذت في الأساس عن طريق صناديق الاقتراع.
- أحمد يتجه إلى ميدان التحرير ليقف في معسكر الضد مشنعًا على “حكومة مرسي” ما فعلته بمصر خلال فترة حكمها أرض الكنانة، ومطالبًا في ذات الوقت بمعاقبة أعمدة الحكم قبل إقفال الملف الأسود -في نظره - تمهيدًا لفتح صفحة جديدة تختلف جذريًّا عن فترة حكم جماعة الأخوان الذين لا يصلحون لإدارة مصالح الشعب.
- أما الثالث “سعيد” فجندي في الجيش يتلقى الأوامر لفض اعتصام المتظاهرين وهو على أهبة الاستعداد للتنفيذ في أيِّ لحظة تصدر له فيها أوامر القائد العام للقوات المسلحة.
- وتشارك البنت الوحيدة “جيهان” زملاءها الإعلاميين في تسريع ساعة الصفر بين المعسكرين، فهي فتاة تحمل درجة البكالوريوس في الإعلام، حباها الله جمالاً، ورزقها حسن صوت، وتجيد اللُّغة العربيَّة بامتياز، وتتحدَّث الإنجليزية بطلاقة، وتملك مهارة اللقاء، وحسن الاختيار للضيوف المثيرين بِشَكلٍّ كبيرٍ، ولذا فقد استقطبتها إحدى القنوات الفضائية المشهورة بمبلغ وقدره.... وأسندت لها مهمة إعداد وقراءة التحليلات اليومية عمَّا يدور في الشارع المصري -طبعًا بعيون ملاك ومديري ومشغلي القناة- وأحيانًا تقوم بإجراء المقابلات الشخصيَّة مع السَّاسة والقادة ورموز الثورة المعروفين -الشيوخ منهم والشباب الرِّجال والنِّساء على حدِّ سواء-، وقد تُكلف بالنزول للشوارع والميادين للتغطية المباشرة حين تكون الأحداث ساخنة والتغيّرات متسارعة.. هذه هي الفتنة في نظري، إخوة أشقاء في بيت واحد ومع ذلك ربَّما يقتل الأخ أخاه، والأخت من حيث تدري أو أنّها جاهلة هي من يشعل الفتيل!!، مع أن البعْض قد يقول: إن الفتنة تطلق حين يلْتَبس الحقُّ بالباطل ولا يستطيع المرء التمييز بينهما أما في الحالة المصريَّة فالحقُّ -طبعًا من وجهة نظر المتحدث -واضحٌ بيِّنٌ.
أن لا أتحدَّث هنا عن وضع بلد بعينه ولكنَّني سقت الحالة المصريَّة كمثال وإلا كثير من الأوضاع الصعبة التي يمرُّ بها عالمنا العربي تتماثل بوجه أو آخر مع ما ذكرت، ويصدق عليه طبعًا بدرجات مختلفة لفظة الفتنة التي عدَّها الله عزَّ وجلَّ “أشد من القتل” واهتم بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بِشَكلٍّ عجيبٍ مع أنّها من المستقبليات البعيدة إبان حياته عليه الصَّلاة والسَّلام حتَّى كان الصحابة رضوان الله عليهم يصابون بشيء من الذُّعر لكثرة حديثه عنها.
إن الفتن حين تضرب أطنابها في بلد تسوق النَّاس سوقًا للمنازلة، وعندما ينخرط الفرد بمجموعة ما ويشاركه في الضجيج والصراخ ورفع الرايات عددٌ من الأقران والنظراء يغيب التفكير الخاص ويذهب العقل الفردي ليحلَّ محلَّه العقل الجمعي الذي قد لا يكون هو مجموع ما يحمله كل فرد داخل ذاته من قناعات ورؤى وتصورات، ومع مرور الأيَّام وتأزم الخطاب وغياب الحوار بدءًا من نقاط الاتفاق يصل الطرفان إلى لحظة اليأس من الحلِّ السلمي فتسيل الدِّماء بلا هوادة ودون أن تكون للأحداث هوية واضحة ورؤية مستقبلية متيقنة حتى “... يقتل الرَّجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه ويقتل ابن عمه، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ يا رسول الله؟ قال: إنه لتنزع عقول أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهَّم على شيء وليسوا على شيء” الأمر حين الفتنة لا يقتصر على هذا، بل المصيبة والطامة أن القاتل كما أخبر المصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام لا يدري لما قتلَ ولا المقتول لما قُتل.
جزمًا يعلم القارئ الكريم أن الفتن ليست جديدة في حياة اُمَّتينا العربيَّة والإسلاميَّة فقد حدثت في خير القرون وما زال إثر الفتنة التي أعقبت مقتل عثمان رَضِي اللهُ عَنْه متغلغل في جسد اُمَّتنا ومؤثِّر على وحدة صفها ومسبب للهرج والجدل وتأزم العلاقات، ولكن الجديد في الأمر سرعة انتشارها في بلاد عالمنا العربي، وسهولة تحريكها بِشَكلٍّ عجيبٍ، وكثرة المستجيبن لها المنخرطين في خندقها في ظلِّ ما يعرف بمشروع “الفوضى الخَّلاقة” الذي بشر به مفكرو القطب الواحد وساسة النظام العالمي الجديد منذ ما يقارب العشرين عامًا، يكون منهم هذا التهافت مع أن الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام حذّر أمَّته من هذا السلوك وأرشدهم إلى تجنَّب مواطن الفتن.
إن أمهر وأبرع وأكيس وأدهى ساسة اليوم ومفكريه لا يدري أين سترسو السَّفينة، وماذا سيكون حال الشارع العربي المصري أو الليبي أو التونسي أو.... في الغد، ومتى سينتهي المشهد المأساوي الذي يعيشه المواطن العربي هناك، ومع ذلك وللأسف الشَّديد فهنا في بلاد الحرمَيْن الشريفَيْن المملكة العربيَّة السعوديَّة يعمل بوعي أو بلا وعي من أجل جر هذه الأرض الطّبية الآمنة المطمئنة إلى مستنقع الفتنة وحمام الدماء، والنهايات كما يحكي التاريخ ونراه في أعيننا اليوم شرًا مستطيرًا ودمارًا شاملاً والعياذ بالله، دمتم بخير وإلى لقاء والسَّلام.